النعمة بالفتح

من نِعم الله نِعم يشترك فيها الناس جميعاً، ولذلك يقول ابن تيمية في الفتاوى: لابد للإنسان من ميلادين اثنين:

ميلاد يوم أتت به أمه، وهذا يشترك فيه كل الناس والبهائم والعجماوات، والطيور والزواحف والأناسي فالكل يولدون هذا الميلاد تماماً.

الميلاد الثاني: يوم تدخل في الإسلام وتخلع جلباب المعصية وتأتي إلى الله مستقيماً سالكاً سبيل الهدى يقول ابن كثير في البداية:

ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

ذكرت أن الميلاد الأول يشترك فيه الناس، لكن ميلاد الشكر الثاني هو يوم أن تكون عبداً للواحد الأحد، قيل لأحد الصالحين: كم عمرك؟ قال: عشر سنوات، قال: وأنت في الستين، قال: أما خمسون سنة فضاعت من عمري، فكانت في معصية، والعمى عمى القلب، ولو أن الله سمى العمى في سورة عبس: عمى العينين {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] وهذا في مقام العتاب، إن ابن أم مكتوم ليس بأعمى في الحقيقة، قال الله له: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] قال أحد العلماء: " وما يدريك يا محمد -عليه الصلاة والسلام- أن هذا الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء " وبالفعل كان منارة تستقبل نور السماء، ووقف هذا الأعمى بنفسه في معركة القادسية يقاتل والمسلمون يقولون: عذرك الله، أنت معذور، قال: لا والله، لقد سمعت أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فلبث مع المسلمين وأعطوه الراية وهو أعمى لا يبصر، فقتل ودفن مكانه، يقول ابن عباس: وقد عميت عيناه ولكن ما عمي قلبه، ولا عمي دليله ولا انطمست مواعظ الله من قلبه، وقد استهزأ به بعض الناس، مستهزئ يقول: " لا بأس عليك يا ابن عباس، أحسن الله عزاءك في عينيك " قال ابن عباس:

إن أذهب الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور

عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور

إسلام وإيمان، ورسالة خالدة، واتصال بالله، ينام المؤمن على الرصيف والسعادة بيده، وينام الفاجر في القصور المذهبة المفضفضة واللعنة تطارده.

سبحانك! تعطي من تشاء وتمنع من تشاء، أما عطية الإيمان فتعطيها من تحب، ولذلك في الحديث الصحيح {إن الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب وأما الدين فلا يعطيه الله إلا من يحب} وفي الصحيحين: {من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين}

ارتفعت راية لا إله إلا الله من على الصفا، قال: فأذن مؤذن الفتح للقلوب على الصفا، فأتى التوفيق يطفح، فقال أبو جهل: كفرت بلا إله إلا الله، وقال أبو لهب: أعرضت عن لا إله إلا الله، وقال سلمان الفارسي في أرض فارس: لبيك اللهم لبيك، وأتى بلال من أرض الحبشة يقول الله أكبر؛ فأقم الصلاة يا بلال! أرحنا بها يا بلال! أرحنا بها يا بلال.

وأتى صهيب فباع نفسه من الله، واشترى نفسه من الواحد الأحد، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] وأتى خباب بن الأرت وهو يصلح السيوف ويصقلها وهو مولى فأعاده الله ليصقل القلوب، حكمة بالغة.

أبو جهل بأُسرته تدكدك في النار، وبلال أنقذ نفسه فقصره كالربابة في الجنة.

وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حق مصلياً

توضأ بماء الحق إن كنت مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا

دخل ابن أبي حازم على الخليفة سليمان بن عبد الملك، هو الخليفة الذي تولى بعد الوليد مباشرة، وكانت من حسناته أن ولى عمر بن عبد العزيز، فقال لـ قيس بن أبي حازم، وهو أحد التابعين الزهاد: [[يا قيس، ما لنا نكره الآخرة، ونحب الدنيا؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فتكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب]] نعم بعضهم عمر دنياه لكن خرب آخرته، فأخفق إخفاقاً تاماً.

بعض الناس لا يملك شيئاً من الدنيا، لكن يملك إيماناً وصدقاً مع الله، هشام بن عبد الملك دخل الحرم ورأى سالم بن عبد الله بن عمر أحد الفقهاء السبعة يحمل حذاءه بيديه، قيل كانت عمامته وثوبه بثلاثة عشر درهماً، فرآه الخليفة هشام ومعه الأمراء والوزراء والحاشية، فقال: يا سالم ألك إليَّ حاجة؟ قال سالم: أما تستحي أن تقول لي هذا في بيت الله؟ فانتظره هشام حتى خرج من الحرم ثم قال له: سألتك يا سالم! داخل الحرم فقلت نحن في الحرم، فقد خرجنا، هل لك إلي حاجة؟ قال: من حوائج الدنيا أو من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت الدنيا من الذي يملكها فكيف أسألها منك؟! أنت فقير مسكين يظن أن الإنسان إذا ملك ملايين أو قصوراً أو دوراً أو بساتين أنه ملك الدنيا.

أنا دائماً أكرر المناظرة الحارة الساخنة؛ السكين المشحوذة بين ابن تيمية وبين ابن قطلوبك وقيل قطلوبغا، هذا سلجوقي يقرأ الفاتحة لكن ما يعرف كوعه من بوعه! دخل عليه ابن تيمية يريد أن يقوده إلى الله، ويلقنه درس في لا إله إلا الله لا ينساه، سلطان فيه خير؛ لكن يريده ابن تيمية أن يصحو من بعض الأمور، فدخل عليه، فقال السلطان: وددنا أن نزورك في بيتك؛ فإنه من حقك، قال: دعنا من كدوراتك يا ابن قطلوبك موسى كان يزور فرعون في اليوم مراراًُ، قال هذا السلطان: يزعم الناس أنك تريد ملكنا يا ابن تيمية! فضحك ابن تيمية، قال: ملكك؟! قال: نعم، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما ملكك ولا ملك آبائك ولا أجدادك يساوي عندي فلساً واحداً، إني أريد جنة عرضها السموات والأرض.

خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً

فإني أعظمكم ثروةً وإن خلتموني وحيداً سليباً

الآن وجد من اهتدى وطعم الهداية، قلت وقال غيري من طلبة العلم والدعاة محاضرة بعنوان (رسالة إلى المغنيين والمغنيات) وقرئت نشرات في الجزيرة وعكاظ اعترافات سبعة أو ثمانية من أبنائنا الذين عاشوا الفن: وهو الغواية، والوتر: وهو الضياع، والكمنجة: وهي طريق إلى النار، والموسيقى: وهي سقر، فعادوا فطعموا الإيمان وسجدوا للواحد الديان فقالوا: نستغفر الله، ولا نريد أطفالنا أن ينشئوا على ذلك، وذلك أنهم ذاقوا الهداية، أحدهم اعترف بعد الهداية، وهو يحيى أبو الكرم وأبكى الناس حتى ارتج المسجد وأنتم سمعتم بهذا، قام يقرأ علينا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وكان يغني في المحافل الدولية، وجمهوره يا ليل يا عين، رايحين من أين، رايحين من فين، ولا نحن عارفين عاوزين إيه.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10]

كأنه -ولله المثل الأعلى- إيقاف أمام الإنسان، أين عيناك، وأين لسانك، وأين شفتاك؟ هذا الوليد بن المغيرة في النار لم ينفعه ذهبه، كان يكسر ذهبه بالفئوس كان يكسو الكعبة مرة وقريش مرة، كان يمشي في الديباج وعنده عشرة أبناء، في اليمين خمسة وفي اليسار خمسة، لكن لما أتت لا إله إلا الله كفر بلا إله إلا الله، قال سبحانه وتعالى عنه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] ذرني وهذا الحقير، يمتن على الله بقصوره، يتمن على الله بدوره ويتكبر على الله بذهبه وفضته: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:11 - 16].

يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران

ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان

نشرت بعض الصحف مقابله لأحد التجار على مستوى العالم فاكتشف أن مرضه من سوء التغذية، وعنده التصاق في الأمعاء، ما وجد أكلاً ولا طعاماً، عنده شيكات واتصالات بالهاتف إلى آخر الليل ولكن نسي نفسه، يأكل بعض الخبز على الشاهي الحار الساخن الذي يقطع الأكباد، لا يعرف المفطح ولا الدجاج المقلي ولا السلطة، ولا الأكل والشرب، فأصيب بسوء التغذية فتدكدك، فقال بعض الزهاد في مجلس: " يا ليته يوم أخفق في الدين نجح للدنيا أي: ليته قيم غذاءه، ليته نجح لنفسه، يا حسرة على هذه الدنيا إذا لم تكن في طاعة الواحد الأحد.

تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العباد

أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد

خرج الصحابة إلى الدنيا بثياب ممزقة، ودخلوا قصور كسرى وقيصر والذهب يلوح، فلما رأى سعد الذهب في قصر كسرى، قال: الله أكبر! قيل في بعض الروايات أن القصر انصدع، فقال سعد وعيونه تدمع من هذا النعيم الذي كفر أهله وأعرضوا عنه قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] نعيم، لكن ما شكر الله فيه، قال سعد وهو يبكي: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].

ذكر الذهبي: أنه لما فتح قتيبة بن مسلم المشرق، أتى إليه بغنيمة كرأس الثور ذهب خالص، وقيل: در وقيل: جوهر، إنما هو ذهب أو در أو جوهر، فقال للقادة حوله: أترون أن مسلماً يدفع له هذا الذهب فيقول: لا أريده، قالوا: لا.

ما نرى في الجيش أحداً يزهد في هذا الذهب أبداً، وكان قتيبة بن مسلم عبداً صادقاً حنيفاً ولم يكن من المشركين شاكراً لأنعمه، قال: والله لأرينكم أناساً من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذهب عندهم مثل التراب، ثم أرسل لـ محمد بن واسع الأزدي العالم العابد الذي كان معه في الجيش، وكان يرى محمد بن واسع يدعو بإصبعه وهو يقول: يا حي يا قيوم انصرنا، فيقول قتيبة: والله الذي لا إله إلا هو، لأصبع محمد بن واسع، خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير، أرسل بالذهب إلى محمد بن واسع، فلما وصلوا بهذا الذهب الكتلة، أخذها محمد بن واسع، فعادوا إلى قتيبة، فقالوا: أخذها محمد بن واسع، فقال: الله المستعان! اللهم لا تخيب ظني فيه، فمر فقير بـ محمد بن واسع، يقول: من مال الله، من مال الله، فأعطاه الذهب كله، قال قتيبة: هكذا فلتكن الدنيا.

ولما عبدنا الدنيا ضاع منا الدين، واستحوذ علينا أهل الدنيا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015