وينتقل بنا القرآن مباشرة إلى اليمن، لنعيش قصة هائلة محزنة هناك، وقعت لأمة أعرضت عن منهج الله قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17].
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير نقصان
وكل وجدان قوم لا ثبات له فإنما هو في التحقيق خسران
أعرض عن منهج الله، قال ابن كثير وغيره من المفسرين: آتى الله كل رجل من سبأ بجانب بيته بستانين وجنتين، عن يمين وعن شمال، يخرج من بيته وبستان عن يمينه وبستان عن شماله، شجر متدلٍ ونعيم خالد، ظل وارف، وماء بارد، وطيور ترفرف، وحياة رغيدة، ولكن القلوب أعرضت عن منهج الله، مثلما يفعل الآن: بيوت وقصور وفلل وسيارات ورغد ومطاعم ومشارب، ولكن هناك من يفسد ويريد ألا ينكر عليه، ومن يفجر ويريد أن يسكت عنه، ومن يتخلع عن الدين، ويقيم المنكر ويستهزئ بالرسالة، ومن يعارض المسجد، ويقاطع لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:5 - 7].
أيها الإخوة الذين جلسوا على الخشب والحديد: انتبهوا لا يسقط بكم كما يسقط بعض الناس برسالته ومبادئه وبإيمانه، وسقوطكم أهون؛ لأن مؤداه ينحصر بالموت، وسقوط بعض الناس إلى جهنم، يقول ابن القيم: "مرض الجسم سهل بسيط، وكسر الجسم يُجبر، لكن كسر الدين لا يجبر أبداً، وسقوط الاستقامة إنما يؤدي بصاحبه إلى نار جهنم".
فأعرضت قرية سبأ يقول ابن كثير: كانت المرأة تذهب بسلة على رأسها فتمتلئ السلة من الثمار التي تتساقط على السَّلة، ولكنهم ما قدروا هذه النعم، بل أعرضوا تماماً وفحشوا بأسلوبهم مع الله، بعض الناس يحارب الله جهراً؛ يقاطع المسجد، فلا يعرف الصلاة، ليله ونهاره غناء وتطبل
متى يهديك قلبك وهو غافٍ إذا الحسنات قد أضحت خطايا
ونحن نقول: ليت السيئة تنحصر فيهم وتتركنا، لكنَّ الشر يعم والخير يخص.
نعم إذا لم ننه وننكر، ولم ندع وننزجر؛ فإن معنى ذلك أننا سوف نُجتاح كلنا ونعوذ بالله من غضب الله.
قرية سبأ أغضبوا الله، فما حاربهم الله بجيش أو أنزل عليهم ملائكة؛ لأنهم أصغر وأذل، قال بعض العلماء: يا ضعيف العزم! يا فقير الإرادة! أتحارب الله؟ الله لما حاربه نمرود بن كنعان، أرسل له بعوضه فقتلته، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74] ويقول سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سبأ:22] ويقول سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] أرسل الله عليهم فأرة، يقول سحبان بن وائل ليمني عند معاوية: " أيها اليمني! أخبر بكم هدهد، ونقض سدكم فأر، وتكلمت عليكم وزغة فلا تفخر، الهدهد نم عليهم عند سليمان، والفأر نقَّض عليهم جسرهم وسدهم، ولا نستنقص منهم، لأن معالم الإقبال في اليمن {فالإيمان يمان والحكمة يمانية} ولكن ذاك الجد البائس الذي ما عرف الله، جدنا جميعاً.
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبابة المتندم
غضب الله عليهم؛ فأرسل عليهم فأرة فنحت السد، فهوى السد، فاجتاحهم الماء، فصاروا شذر مذر، بكى الأطفال والشيوخ وولولت، النساء، ولكن ولات ساعة مندم! كذلك من يخرج عن شريعة الله ومن يتذمر عن رسالة الله ويغضب الله.