قال صلى الله عليه وسلم: {كن في الدنيا كأنك غريب} ثم ترقى عليه الصلاة والسلام إلى درجة أعلى فقال: {أو عابر سبيل} وعابر السبيل: أعظم من الغريب الغريب: يقيم يوماً أو يومين أو ثلاثة أو شهراً أو سنة، لكن عابر السبيل: لا يقيم.
وأعرف الناس بالدنيا، وحقيقتها: محمد عليه الصلاة والسلام، كان يقول: {ما لي وللدنيا، وإنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، قال في ظل شجرة ثم سار وتركها} حديث صحيح.
الرسول صلى الله عليه وسلم تتوالى عليه ثلاثة أيام لا يجد فيها كسرة خبز.
فما لنا نشبع من الموائد الشهية؟
ونركب المراكب الوطية؟
ونسكن في المنازل البهية؟
كفاك عن كل قصر شاهق عمداً بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها عذب من الوحي أو هدي من الكلم
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بيتُه من طين، إذا نام وصل رأسه إلى الجدار، وأرجله إلى الجدار الآخر، أظهر الناس عن حجر واحد يوم يحفرون الخندق يربطون بطونهم من الجوع، وأظهره على حجرين صلى الله عليه وسلم، عاش عبداً رسولاً لكن ادخر الله له الرضوان، فقال عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] يقول وهو يتلو هذه الآية، ويبكي: {والذي نفسي بيده لا أرضى وأحد من أمتي في النار، والذي نفسي بيده لا أرضى وأحد من أمتي في النار} فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
فعابر السبيل: لا يأخذ إلا ما يكفيه في الطريق
دخلوا على أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه وهو في سكرات الموت يبكي، قالوا: [[ما لك؟ قال: استثقلت من الدنيا، وأكثرت منها، وورائي عقبة كئود، لا يجوزها إلا المُخِِفّ، قالوا: ما هي دنياك يا أبا ذر؟ فنظروا في بيته، فوجدوا شملة: (فراشاً يفترشه) ووجدوا قعباً، ووجدوا صَحفة وعصا!! أهذا استكثار من الدنيا؟ قالوا: ما معك شيء، قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم قال لي: {ليكن زادك من الدنيا كزاد الراكب} ليكن متاعك من الدنيا كمتاع الراكب]] رضي الله عنه وأرضاه.
أرسل عمر رضي الله عنه وأرضاه سلمان الفارسي، الذي استجاب لـ (لا إله إلا الله).
سلمان الذي كفر بالطاغوت
سلمان الذي ترك النار وعَبَدة النار وأباه وأهله وأجداده وزوجته وأطفاله، وأتى يركب القفار والبحار حتى وصل إلى المدينة، فكان جزاؤه أن يقول له صلى الله عليه وسلم فيما يُروى عنه: {سلمان منا آل البيت} وهي والله وسام من أعظم الأوسمة، يوم يُترك أبو لهب، وأبو طالب، المدهدهان على رءوسهما في النار، أما سلمان الفارسي فهو من أهل البيت.
يجلس العرب في حلقة، فينتسبون لأجدادهم، وترابهم، فيقولون لـ سلمان: من أبوك؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
رضي الله عنك وأرضاك.
أرسله عمر رضي الله عنه وأرضاه أميراً إلى العراق، فذهب على حمار انظر إلى صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين فتحوا الدنيا! يركبون الحمير!
الذين أسسوا حضارةً عالميةً مشرقةً وضَّاءةً يركبون الحمير!
فوصل، فلما خرج أهل العراق، لاستقباله، قالوا لـ سلمان: أرأيت أميراً أرسله عمر إلينا اسمه سلمان الفارسي؟ قال: أنا سلمان الفارسي، قالوا: لا تضحك علينا، قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو سلمان الفارسي!! فعجبوا وذهلوا من هذا الدين، الذي الأمير فيه كأنه أفقر فقير في الناس!!
فسكن هناك، وأخذ راتبه، فوزعه على ثلاثة أنحاء: قسم يتصدق به، وقسم يهديه لإخوانه، وقسم يتقوت به وقيل: كان يتصدق بكل المال، ويتقوت من خصفه الذي يخصفه بيده رضي الله عنه وأرضاه.
يأتي عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهؤلاء عالم الغربة، وأهل الغربة والاستقامة، فيرسل سعيد بن عامر الصحابي الجليل إلى حمص، فيبعثه فيقول: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: [[أتولونني الخلافة في عنقي، ثم تتركونني؟ والله لتتولين الإمرة لي]] فذهب رضي الله عنه وأرضاه، ولما سافر من المدينة، قالت زوجته: [[عندي مال كثير، أعطيك إياه تستنفقه لك، أو تضعه في تجارة بيني وبينك، فأخد المال فتصدق به في سبيل الله، فقالت: أين المال؟! قال: أعطيناه شريكاً، يضاعف لنا به أضعافاً على الدرهم الواحد إلى سبعمائة درهم]] فصدقت وسكتت.
دخل حمص، وأخذ هذا الغريب يَعْدِل في الناس ويصلي بهم، حتى مرَّ عمر رضي الله عنه وأرضاه على أمرائه وولاته في الأقاليم، فأخذ سعيد بن عامر وسأل أهل حمص عنه: كيف سعيد بن عامر؟
أي: كيف مسيرته فيكم؟
كيف عدله؟
كيف زهده وورعه؟
فكلهم أثنوا خيراً، لكن أخذوا عليه أربعاً من الخصال: ما هي الأربع؟
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[اللهم إني ما علمت فيه إلا خيراً، اللهم لا تخيب ظني فيه، قالوا: أما الأولى: فيُصرع بين أيدينا، وأما الثانية: فلا يخرج لنا يوماً من أيامه من الأسبوع، فلا نراه ولا يرانا، وأما الثالثة: فإنه لا يخرج حتى يرتفع النهار، وأما الرابعة: فإنه لا يخرج في الليل، مهما طرقنا عليه بابه]].
لا يخرج علينا في الليل، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقد نكس رأسه، ودموعه تهراق على خديه: [[اللهم لا تخيب ظني في سعيد بن عامر، قم يا سعيد، فقام يتكلم، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لوددت أن أكتم هذا الأمر، فأما والحالة هذه فسأتكلم، فأمَّا قولهم: أني أصرع، فقد حضرتُ مشهداً ما وددت أني حضرته: رأيت خبيب بن عدي وهو يُقتل في مكة، وأنا مع المشركين آنذاك، فسمعته يقول للكفار: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، فكلما تذكرت ذاك المشهد صرعت، ووددت أنني نصرته، وأما اليوم الذي لا أخرج فيه للناس: فأنا رجل ليس لي خادم، وزوجتي مريضة، أغسل ثيابي، وأنتظر جفافها، أو أغسل ثيابي وثياب أهلي في هذا اليوم -سبحان الله! أيُّ حياةٍ هذه الحياة، حياة الغرباء؟ - وأما الليل لا أخرج إليهم: فقد جعلت النهار لهم، والليل لربي تبارك وتعالى:
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
لَمْ ألْقَ في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحارِ
وأما قولهم: لا أخرج حتى يرتفع النهار، فزوجتي مريضة، فأنا أصنع إفطاري بنفسي، فإذا أفطرتُ خرجتُ إليهم، فرفع عمر يديه إلى السماء يبكي، ويقول: الحمد لله الذي لم يخيب ظني في سعيد بن عامر]]
سلام على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته.
إن لم تؤخذ السيرة والعقيدة، والمبادئ الأصيلة والسلوك منهم، فمن أين تُؤخذ؟ إنهم من {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].