فنحن إنما نجتمع في مثل هذه الجلسة، لنتطلع على أخبارنا وعلى سيرنا وعلى قصصنا، لأن أعداءنا يقولون: إنه ليس عندنا أدب، والأدب كل الأدب في مجدنا وتاريخنا، فهم ماذا قدموا للبشرية من أدبهم، ومن سخفهم، ومن قبحهم، ومن حقارتهم؟ قدموا المرأة الخليعة، قدموا كأس الخمر، قدموا المجلة الممسوخة من مراقبة الله، قدموا الأغنية الماجنة، قدموا الملهى والمرقص، قدموا الضلال، قدموا الصد عن الله عز وجل وهدم دين الله في أرضه، ونحن قدمنا لا إله إلا الله، ورفعنا لا إله إلا الله، وعلمنا الناس أن يقولوا: لا إله إلا الله، بنينا مساجد يُسبح فيها بحمد الله صباح مساء، وتخرج من مسجده صلى الله عليه وسلم ألف شهيد وشهيد، وألف عالِم وعالِم، وألف عابد وعابد، وألف مفكر ومفكر، كان ينطلق الصحابي الواحد، وليس عنده من الخبز إلا ما يسد جوعته، وجبة واحدة، كسرة من الخبز وسيف في غماد، ثم ينطلق مهللاً ومكبراً، يريد أن يرفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فيا إخوتي في الله! تعالوا لنرى كيف عاش صلى الله عليه وسلم بالأدب، وكيف كان يعيش مع النوادي الأدبية، التي يجب أن تتحول -وهي الآن في طريقها- إلى أن تؤدي للأمة رسالتها الحقيقية، وتؤدي كلمة الحق، وتنفع شباب الإسلام، وتردهم إلى الله عز وجل، مسجده صلى الله عليه وسلم في المدينة بُني من طين، ليس من (بُلُك) ولا من حديد، ولا فيه زخرفة، وليس فيه كهرباء، وليس فيه (زل شيرازي) وليس فيه (كنبات) ولا زينات ولا زخارف، بل لُبينات من طين، لكنه منارة من منارات الأرض تتلقى نور السماء، كان إمامه محمد صلى الله عليه وسلم تلتقي به القلوب كل يوم خمس مرات، وفكر في ذهنك أنت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يصلي بك العشاء الليلة، وسوف تسمعه يقرأ، ثم يسلم، ثم تصافحه وتسلم عليه , وتجلس معه، أي شعور وأي كرامة! وأي نعمة فوق هذه النعمة! عاش الصحابة هذا الشعور، فكان صلى الله عليه وسلم، يصلي بهم وهو رسول الله، وأكرم مَن خَلَقَ الله، وأرفع من أوجد الله عز وجل، فيلتفت إليهم، ووجهُهُ كالقمر ليلة البدر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فيتحدث معهم، فإذا هو مفتي الأمة، وليس في فن خاص؛ في الفرائض دون الفقه، أو في الفقه دون الفرائض، أو في التفسير بلا حديث، لكنَّ الله أفاض عليه من نعمته، فهو بحر لا ساحل له، يأتي إليه ملوك العرب فيعلمهم ويعطيهم، وتأتي المرأة بطفلها تستفتيه، فيأخذ طفلها -شفقة ورحمة ورقة- فيُقَبِّل طفلها ويضمه بين يديه، حتى يقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] أي: عظيم هذا الخلق الذي تتعامل مع الناس به، عظيم هذا التحمل الذي تسري في الأمة به، ويقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: أنت لَيِّن، وأنت سهل، وأنت حبيب للقلوب، تحبك الأرواح، ولذلك يقول أحد المفكرين: " نحن العرب قبل أن يبعث الله فينا محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يجمعنا أحد، لا سيف عنترة، ولا صحفة حاتم ولا جود هرم بن سنان أبداً؛ لأننا -كما يقولون- كقرون الثوم، كلما كَسَرتَ قرناً، وجدتَ داخله قروناً، فلمَّا أتى عليه الصلاة والسلام، تسامح كل التسامح، نسي الحقد والغضب، كظم غيظه، بش للناس، كان قريباً إلى الأرواح والقلوب، فكيف لا يحبونه؟! وكيف لا يتمنون الجلوس معه؟!
يقوم في الصلاة -وانظروا إلى هذا المشهد- فيريد أن يطمئن ويقر عينه بالصلاة مع الله؛ لأنها قرة عينه، يريد أن يطيل الصلاة وأن يتدبر الآيات في الصلاة، وهو يصلي بالناس، فيسمع بكاء الطفل، فيعلم أن أمه تجد مشقةً وهي تصلي، فيتجوز في الصلاة ويسلِّم، ثم يلتفت إلى الناس فيقول: {أيها الناس! إني أريد أن أطيل الصلاة، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه} صلى الله عليك وسلم يا صاحب الخلق العظيم! {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ويأتي في صلاة العصر بطفلة -وهي بنت ابنته صلى الله عليه وسلم-: {فيحملها على كتفه، ويصلي إماماً بالناس، فإذا سجد وضعها في الأرض، وإذا قام رفعها} من يفعل ذلك؟! إنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يكون قدوة للناس أجمعين.