وأما المنافق فقليلة أوصابه وأحزانه لأن رَغَدَه الحياةُ، والله عز وجل لا يجمع للعبد سعادتين وراحتين في الدنيا والآخرة إلا النادر، ولا يجمع شقوتين على العبد إلا النادر، قال يهودي للشافعي: ما بالنا نحن أقل منكم أمراضاً وأنتم تمرضون وأنتم مسلمون؟! قال الشافعي: لأن هذه هي جنتكم وهذا سجننا، فإذا خرجنا منها خرجنا إلى الجنة وخرجت أنت إلى النار، وهذا رد بديع مليح، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]:
لا بأس بالقوم من طول ومن عرض جسم البغال وأحلام العصافير
أما الأجسام فممتلئة، والشخصيات فارهة لكن لا قلوب
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
والقلب إنما يكون لأهل القلوب الذين يسكبون فيها القرآن والسنة، قال: {ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة} الأرزة هذه هي: الأرز الذي ينبت في لبنان هذه الشجرة المتينة وقيل الصنوبر لكن لا يهمنا هذه أو تلك إنما هي شجرة متينة لا تؤثر فيها الريح، ولذلك تمر المصائب بالناس، والمؤمن دائماً مصاب وأما المنافق فلا يمر به شيء في الغالب، حتى إن بعض المنافقين وبعض الفجرة يستهزئ بمصائب المؤمنين ويشمت بهم، ويقول: فلان نسأل الله العافية نظن من ذنوبه مات ابنه ورسب أولاده، وهو لا يفكر في نفسه.
وعروة بن الزبير قطعت رجله من الفخذ فقال الناس الذين إيمانهم ضعيف: أظن عروة ما قطعت رجله إلا لذنب أصابه، ولم يدر أنها رفعة في الميزان، وأنها حط من الخطايا، فقال عروة:
لعمرك ما مديت رجلي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني فكري ولا نظري لها ولا دلني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
ثم قال البخاري رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأً بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء} هذا بلفظ آخر وهو من سياق هذا الحديث ومعانيها واحدة.
وقد أكثر الأدباء في المرض وفي التكلم عنه، وأكثروا من ذكر محمدتهم من مكث الأمراض وصبرهم على ذلك، ويقول بعضهم في أبيات معناها: إنه إذا مرض حبيبي وزرته مرضت أنا من النظر إليه، وإذا زارني وأنا مريض تشافيت من النظر إليه يقول:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من خوفي عليه
وأتى الحبيب يزورني فشفيت من نظري إليه
واستدل بها ابن القيم وهي من أحسن ما يقال، يقول أبو تمام حبيب بن أوس:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم ونعتذر