والنعي المذموم: هو ما كان لتشهير الميت، ولتزكيته، ولرفع صيته، ولتأبينه، ولإشغال الناس به، كما يحدث في بعض الصحف وبعض وكالات الأنباء، إذا مات رجل ولو كان كافراً عدواً لله، أشغلوا الناس بموته وأخبروا وأبرقوا وأعلنوا فهذا مذموم؛ لأن فيه إشهاراً لهذا الرجل؛ ولأن فيه فعلاً من أفعال الجاهلية، فأما فعل أهل الإسلام فإنه من الباب الأول، وكانوا في الجاهلية إذا مات الميت يخبرون بهذا من باب النعي، فيذكرون الناس بموت الرجل وعلى المنائر ويعلنون في الأسواق لرفع صيته ولذلك يقول الأول:
ألا أصبح الناعي بخير بني أسد بـ عمرو بن مسعود وبـ السيد الصمد
يقول: أخبرنا هذا الناعي بموت هذين السيدين الجليلين المذكورين وهما جاهليان، والصمد من تصمد إليه الناس- أي: تتجه إليه، وهذه من المعاني في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] فإن من المعاني عند أهل التفسير -كما قال الرازي - أنه هو الذي تصمد إليه الكائنات سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في حاجاتها وقيل: هو معنى آخر أي: أصم لا جوف له، والصمد هنا: أنه سيد معروف يقصده الناس.
وفي تاريخ ابن عساكر أن جحدر بن عدي لما حكم عليه الحجاج بالقتل، استدعاه من اليمامة، وجحدر بن عدي هذا كان فتاكاً، ينصب الكمائن للقوافل، كلما مرت قافلة في نجد من اليمامة سلبها وأخذها، فأرسل الحجاج كذلك عصابة من جنوده فاستولوا على جحدر وربطوه وأركبوه جملاً واتجهوا به إلى الحجاج ليعدمه، فلما مر جحدر بن عدي في طريقه وإذا بحمامتين على نخلتين تتجاوبان قال:
وإني شاقني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بصوت أعجمي على غصنين من غرب دان
فكان البان أن بانت سليمى وفي الغرب اغتراب غير داني
إذا جاوزتما صخرات نجد ونخلاً باليمامة فانعياني
فقولا جحدرٌ أمسى عتيقاً يحاذر ضرب مسلول يماني
أي فأخبرا الناس بموتي وشهرا بموتي لأنني كنت سيداً من سادات العرب.
وقال طرفة بن العبد لابنته لما حضرته الوفاة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد
هذا النعي المذموم للشهرة.