وكان ابن عباس من أخشى الناس لله، وقد ذكر عنه أهل السير والتراجم وغيرهم أنه كان يقف في الحرم من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ليقرأ آية واحدة يرددها إلى صلاة الفجر ويبكي، والآية هي من سورة النساء قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
فكان يبكي لأن بعض المؤمنين قالوا: ربما يخفف الله عنا لأنا من أمة محمد، مثلما يفعل الجهلة الآن؛ يرتكبون من الكبائر أمثال الجبال فإذا نصحته قال: أمة محمد مرحومة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي}.
وأنت ما تدري أيها المسكين هل تدخل في أهل الشفاعة، أم أنك تحرم من الشفاعة أصلاً، أم أنك لاستهزائك وتهتكك في الحدود وانتهاكك لحرمات الله لا يمكن أن تدركك شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام أبداً، لكن ابن عباس يقرأ هذه الآية فيتأمل اليهود والنصارى يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، فيقول الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ما هو الرد؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18].
لماذا أخزاكم؟ ولماذا حعل منكم قردة وخنازير؟ ولماذا لعن كثيراً منكم؟ ولماذا هزمكم في كثير من المعارك؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18]
فكان ابن عباس فيه خشية لله عز وجل، يقول عطاء: رأيت جفني ابن عباس كأنهما الشراكين الباليين من كثرة البكاء، الرجل جميل وجهه كالقمر، لكن من كثرة البكاء من خشية الله! إذا قرأ القرآن -لأنه عالم رباني- أصبحا كالشراكين الباليين في الحزام الذي يكاد ينقطع، ونسب إلى عمر أنه أخذ الدمع في خديه خطين أسودين من كثرة ما يبكي، ولذلك سبقوا غيرهم لكثرة خشيتهم لله عز وجل.