خامساً: سعد بن أبي وقاص.
كنيته: أبو إسحاق، أسلم قديماً يوم سمع لا إله إلا الله محمد رسول الله، وسعد بن أبي وقاص قيل: هو الثالث في الإسلام وقيل: الرابع، وعلى كل فهو بالمنزلة العليا عند الله عز وجل، ولما أسلم غضبت أمه وكانت وثنية مشركة، فتهددته بكل شيء، وأضربت عن الطعام والشراب، وتألت ألاَّ تأكل ولا تشرب حتى يرجع ابنها عن دين الإسلام إلى الكفر، فحاول إقناعها فلم تقتنع، وحاول معها فلم تستجب، قال: [[يا أماه! والله الذي لا إله إلا هو لو أن لك ألف نفس فخرجت نفساً نفساً ما عدت عن ديني، فكلي واشربي أو دعي]] قالوا: فاستمرت ثم أكلت وشربت وأظنها أسلمت فيما بعد، والقصة في صحيح مسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15].
فلما استمر رضي الله عنه في الإسلام كان يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو من خئولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {هذا خالي فليرني امرؤ خاله} يقول: من عنده خال مثل هذا فليبرز لنا خاله الذي كخالي هذا.
كان شديد البنية، متماسكاً، قائداً عسكرياً يصلح لقيادة الجيوش، ولذلك ولاَّه عمر رضي الله عنه الجيش الإسلامي الذي فتح العراق، واجتاح دولة الأصنام والعمالة والضلالة، دولة المجوس، دولة كسرى، إمبراطورية التخلف، اجتاحها ودخل الإيوان، ولما رأى إيوان كسرى، قال: الله أكبر! فانصدع الإيوان، فقال وعيناه تدمع من الفرح، وبعض الناس عيناه تدمع من الفرح:
طفح السرور علي حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني
قال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
يقول سعد: {يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: يا سعد! أطب مطعمك تستجب دعوتك} أي: ليكن مطعمك وملبسك وشربك حلالاً، ليستجيب الله دعاءك، وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {ذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له} فالمرابي والغشاش والمرتشي لا يستجيب الله دعائهم، ثم قال عليه الصلاة والسلام ل سعد: {اللهم أجب دعوته وسدد رميته}
فما كان يدعو بدعوة إلا تأتي كفلق الصبح، وإذا رمى كانت بإذن الله لا تخطئ أبداً.
وفي معركة أحد كان عليه الصلاة والسلام عنده كنانة، والكنانة تشبه الحقيبة فيها السهام، فكان يأخذ صلى الله عليه وسلم السهم ويعطيه فيضرب سعد المشرك فتقع في عين المشرك أو في رأسه ولا تخطئ، فكان يتبسم عليه الصلاة والسلام، ويقول: {ارم سعد فداك أبي وأمي، ارم سعد فداك أبي وأمي}.
من يقول: فداك أبي وأمي؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يظفر بكلمة فداك أبي وأمي إلا سعد، قال علي بن أبي طالب ما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبويه إلا سعد بن أبي وقاص يقول: {ارم سعد فداك أبي وأمي} فكان يرمي فتصيب بإذن الله عز وجل.
وأما إجابته الدعاء: فقد كان الله يستجيب دعوته؛ لأنه كان طيب المطعم والسريرة، والعمل والأخلاق، شاب لكنه يريد الله والدار الآخرة، ولاَّه عمر رضي الله عنه على الكوفة أميراً، وكان أهل الكوفة مشاغبين، يشتكون أميرهم ولو كان من الملائكة، فقال لهم عمر: كيف أميركم؟ وكان عمر يجمع الناس في الحج من الأقاليم والمدن، ويسألهم: كيف أمراؤكم؟ فإذا شكوا من الأمير أتى بالأمير وأوقفه أمامهم وحاسبه وهم يرون، فقال: كيف سعد؟ قالوا فيه خير، ولكن شكوا بعض الأمور، فأرسل لجنة يرأسها محمد بن مسلمة أحد الأنصار الكبار الصادقين، وقال: اذهب إلى أهل الكوفة وسلهم عن سعد، فذهب يمر بمساجد الكوفة، كيف سعد بن أبي وقاص الأمير؟ قالوا: من أحسن الناس، عبد صالح، فذهب حتى وصل إلى مسجد من مساجد الكوفة فيها شيخ كبير أضل الله عقله، فقال: كيف سعد بن أبي وقاص؟ فقام هذا الشيخ وقال: أما إن سألتنا عن سعد بن أبي وقاص فإنه لا يخرج في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، هذه ثلاث مثالب.
فقام سعد وهو يسمع الكلام، فقال: [[اللهم إن كان عبدك هذا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] قال: فاستجاب الله دعوته، فاستمر في الحياة حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري يغمزهن في شوارع الكوفة، ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد.
وخرج سعد بن أبي وقاص من المسجد بعد أن صلى الجمعة، فإذا برجل يسب علي بن أبي طالب وقد قتل علي، فقال: لا تسب أخي، قال: والله لأسبنه، قال: لأدعون عليك، فلم ينزجر فقال: [[اللهم اكفنا هذا الظالم]] هذه القصة ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء، وبينما هذا الساب الذي سب علياً واقف مكانه وإذا بجمل أتى من ناحية الكوفة لا يلوي على شيء، فتأخر الناس عنه فاقترب من الرجل ثم لطمه بيده أو برجله فإذا الرجل ميت على الأرض، وهذا سنده صحيح.
وكان سعد رضي الله عنه من أقوى القواد، ولما أرسله عمر قال: يا سعد بن وهيب! لا يغرنك قول الناس إنك خال الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، فكان يوصيه بتقوى الله عز وجل، وبطلب ما عند الله.