أما زهده في الدنيا فحدث عنه ولا حرج، فقد عاش الفقر، أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب ابنته فاطمة التي والله لو كانت الدنيا ذهباً وفضة ما تساوي إصبعاً من أصابع فاطمة، ومحمد إقبال شاعر الباكستان يقول في فاطمة:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أبوها محمد صلى الله عليه وسلم، وزوجها علي بن أبي طالب، أبناؤها الحسن والحسين.
أما أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها
إيوانه كوخ وكنز ثرائه سيف غدا بيمنيه تياها
في روض فاطمة نما غصنان لم ينجبهما في الكائنات سواها
أتى علي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يخطب ابنته فخجل علي ولم يتكلم في الموضوع، لأنه أمام سيد البشرية ومعلم الإنسانية ومزعزع كيان الوثنية صلى الله عليه وسلم:
حياء من إلهي أن يراني وقد ودعت دارك واصطفاكا
فجلس، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا تريد يا بن أبي طالب؟ كأنك تريد فاطمة، قال: نعم.
قال: هل عندك مهر تدفعه؟ قال: لا والله يا رسول الله! ما عندي شيء.
لا شيء عنده؛ لكن له قلب يؤمن بالله، وعنده رسالة خالدة، ودم يقدمه لخدمة هذا الدين، ونفس أغلى من الدنيا وما فيها، ولذلك يهون الذهب، وتهون الفضة، ويهون المنصب والوظيفة، ولا تساوي بلا إيمان الحذاء التي نطؤها.
قال: ما عندك شيء؟ قال: ما عندي شيء، قال صلى الله عليه وسلم: التمس لعلك تجد شيئاً، فنكس رأسه يفكر، لا خزائن ولا بنوك، لا شيكات ولا وظائف، ولا شيء، قال: يا رسول الله! عندي الدرع الحطمية التي أخذتها، درع مكسرة في البيت يلبسها علي في المعركة، لأنه عسكري دائماً ليل نهار.
فقال عليه الصلاة والسلام: عليَّ بها، قال علي: فأتيت بها والله ما تساوي درهمين فعقد له صلى الله عليه وسلم وقال: {بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير} وبدأ الحياة في بيت متواضع أظنه والله أعلم على طول الرجل كما وصف، وفراشه فرو متواضع يقول: {زارنا صلى الله عليه وسلم أنا وفاطمة على فرو حتى وجدت برد قدميه صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟ قالوا: بلى.
قال: تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبران الله أربعاً وثلاثين عند النوم، فذلكما خير لكما من خادم}.
فهذا أحسن من جارية، وممن يخدمكم، فكان علي يأتي في الصباح إلى هذا الفرو فيضعه على الفرس، وفي الليل يفترشه وفاطمة ليناما عليه، لكن: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الإنسان:8 - 13].
هل سمعت أبلغ من هذا الكلام، والله إنه ليهزنا ويقيم شعر الرأس من بلاغته: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:12 - 13] الآيات.
يقول علي: انتهى طعامنا من البيت أنا وفاطمة فقالت في الصباح: اذهب فالتمس لنا طعاماً، وليس لديهم مزرعة ولا وظيفة ولا مال، ولا بيت مؤجر ولا مساهمات في شركات، قالت فاطمة: اذهب فالتمس لنا رزقاً علَّ الله أن يرزقك هذا اليوم -للبطون فقط- قال: فأخذت عليَّ فرواً من البرد ثم تسللت إلى أرض اليهود، فدخلت على يهودي وهو يسني على السواني، وكانوا ينزحون الماء من البئر على الجمل، فقال اليهودي: يا غلام! وهو لا يدري من هو؛ إنه أبو الحسن من عظماء الدنيا، يا غلام! قال: نعم.
قال: أتنزع لي غرباً بتمرة؟ قال: نعم.
أنزع فكان علي كلما نزع غرباً أعطاه اليهودي تمرة حتى ملأ يديه، ويوم ملأ يديه ذهب، فلقيه صلى الله عليه وسلم فقال: أين كنت يا بن أبي طالب؟ فأخبره، فقال: أين التمر؟ فأراه فدعا له صلى الله عليه وسلم بالبركة، وأكل منه تمرة، والبركة ما بقي من أكله صلى الله عليه وسلم تعادل الدنيا، فذهب إلى فاطمة فأخذ يأكل معها، فتلك حياة علي رضي الله عنه حياة الزهد.
ولذلك تولى الخلافة ومكث فيها خمس سنوات، وكان يأتي يوم عيد الفطر وقيل عيد الأضحى فيوزع بيت المال على الفقراء ويترك أهل بيته، يصلي ثم يكنس بيت المال، لا يترك الزبيب ولا الحبوب ولا المال، فيكنس البيت ثم يصلي ركعتين ثم يبكي ويقول: اللهم اشهد أني ما تركت درهماً ولا ديناراً ولا تمرة، وأتى في ليلة من الليالي فدخل على أهله بعد موت فاطمة في العراق فقال: هل عندكم شيء؟ قالوا: ما عندنا شيء، فخرج بسيف الرسول صلى الله عليه وسلم ذي الفقار، قال: يا أهل العراق! قاتلكم الله، أموت جوعاً وأنا أمير المؤمنين بين أظهركم، والله ما في بيتنا خبزة ولا تمرة؛ من يشتري مني هذا السيف، فلطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعوا له بعض المال أو اقترض بعض المال رضي الله عنه.