الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد: فقد رفع عليه الصلاة والسلام قلوب أصحابه إلى درجة أن ترى اليوم الآخر كأنها تراه رأي العين.
أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[والذي نفسي بيده! لو كشف الله لي الغطاء، ورأيت الجنة والنار، والحوض والصراط والميزان، ما زاد ذلك على ما عندي من إيمان مثقال ذرة]] معنى ذلك: أنه أصبح يتصور اليوم الآخر كيومه الذي يعيشه الآن، وهذا الفارق بيننا وبين الصحابة؛ أن إيماننا إيمان ظن، وإيمانهم يقين، وأنهم يعملون لليوم الآخر كما نعمل نحن ليومنا الحاضر، وأنهم كانوا يتمنون على الله أن يبقي نعيمهم ولذتهم وسعادتهم لليوم الآخر، ونحن نتمنى أن يعجل لنا ربنا سعادتنا وراحتنا ونصرنا في هذه الدار، وكانوا يعيشون طموحاً ليومٍ آخر، إذا رأوا قصور أهل الدنيا تمنوا من الله قصوراً في الجنة، وإذا رأوا بساتين أهل الدنيا سألوا الله بساتين وحدائق الجنة، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10].
مر عمر رضي الله عنه وأرضاه على جابر بن عبد الله، وقد اشترى جابر لحماً من السوق لأهله، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[يا جابر! ما هذا؟ قال: لحمٌ يا أمير المؤمنين، قال: أتأكل اللحم دائماً؟ قال: اشتهيته -يا أمير المؤمنين- فاشتريته، قال: أكلما اشتهيت اشتريت؟! والذي نفسي بيده! إني لأعلمكم بأحسن المطاعم، لكن أخشى أن أعرض على الله مع قومٍ قال فيهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]]] كان عمر يؤجل أكل اللحم ولذائذ المطعومات والمشروبات والملبوسات ليوم العرض الأكبر، كان يرى أنه إذا قدم شيئاً واستهلك شيئاً إنما هو على حساب نعيمه وسعادته عند الله عزوجل.
ويحضر الصحابة بدراً، ويخرجون صفوفاً للقاء العدو، ويسلون السيوف، ويقول عليه الصلاة والسلام لهم: {يا أهل بدر! إن الله قد اطلع عليكم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، يا أهل بدر! والذي نفسي بيده! ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة} فيأتي عمير بن الحمام الأنصاري -الذي كان يأكل التمرات من الجوع- فيقول: يا رسول الله! أسألك بالله ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فألقى التمرات من يده، وأخذ غمد السيف فكسره على ركبته، وقال: بخٍ بخٍ إنها لحياة طويلة إذا بقيت حتى آكل هذه التمرات، فتقدم وقتل فلقي الله شهيداً، لماذا؟
لأنه صدَّق موعود الله عز وجل، وعلم أن هذا يقين لا شك فيه.