فجلس صلى الله عليه وسلم في المسجد، وجمع الناس، وحضر الأطفال والنساء، فقال: ليقم خطيبكم، فقام عطارد صاحب الحلة، وهو صاحبنا هذه الليلة، وكان خطيباً مصقعاً كأنه الرعد يتقاصف، فأخذ المنبر وقام يمدح بني تميم، وبنو تميم قبيلة كبيرة عظيمة شهيرة، ولكن الفضل لمن رفعه الإسلام، والفضل بالتقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فكانت أكثر قبائل العرب.
فقام فمدح قبيلته فلما انتهى، قال عليه الصلاة والسلام: أين ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي قتل في اليمامة رضي الله عنه وأرضاه، فقام يرد على الخطيب، فقال: الحمد لله الذي رفع السماوات بلا عمد، وبسط الأرض في أحسن مدد، الذي خلق الإنسان في كبد ثم أخذ يأخذهم بفواصل الكلام حتى كأنه الصواعق تنزل على رءوسهم وعرقهم يتصبب، ولما انتهى، قالوا: غلب خطيبك خطيبنا.
ثم قام الزبرقان شاعرهم وقال:
نحن الكرام فلا حي يضارعنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
فلما انتهى، قال صلى الله عليه وسلم: كيف أنت يا حسان؟ أتستطيع أن ترد عليه في الحال، أو نمهلك حتى تفكر؟ فالموقف صعب، يحتاج إلى مهلة، ويحتاج إلى تخمير الرأي، لكن حساناً كان من أشعر العرب فقام؛ فرد عليهم ارتجالاً بما يقارب ستين قافية من أروع الشعر، يقول فيها:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع
يقول: المكرمات عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وليست عندكم
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
حتى انتهى، فقالوا: وغلب شاعرك شاعرنا فأسلموا، فجاء عطارد هذا بحلة من ديباج، وقيل: من حرير، فأراد أن يهديها مع حلة أخرى، فرفضها صلى الله عليه وسلم، فتعرض عمر رضي الله عنه وأرضاه للحلة، فرآها في السوق تباع، وكانت جميلة، ويريد عمر كل جميل للرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذها من السوق وأتى بها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! خذ هذه الحلة، تلبسها لصلاة الجمعة وللوفود، أي: لأنك قائدنا ومعلمنا ومربينا، وإذا استقبلت الوفود نريد أن تظهر بمظهر القوة.