والشاهد: أن بر الوالدين الذي انتهك وضيع في هذه الأزمان إلا فيمن رحم الله، فتجد الأب إذا شاخ ازدراه ابنه، واستهزأ به، وجفاه وتغلظ عليه وتأمر، فلا يطيعه أبداً، يرى أن نفسه قد كبرت وأنه قد أصبح من الرجال الذين لا يحتاجون إلى أن يتأمر عليهم أحد من الناس، سبحان الله! أبوك وأمك اللذان تعبا لترتاح، وسهرا لتنام، وجاعا لتشبع، وظمئا لتروى.
روى الطبراني بسنده: أن رجلاً قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: يا رسول الله! أشكو إليك شكاية، قال: ما لك؟ -شيخ كبير يبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: ما لك؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك ابني، قال: ما فعل بك؟ قال: ربيته يا رسول الله، فلما كبر تغمط حقي وأغلظ لي، وجفاني وتنكر لي، وبلغ به العقوق أن لوى يدي وراء ظهري، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: أقلت في ذلك شعراً؟ -والعرب كانت تنفس عن أحزانها وهمومها بالشعر- قال: نعم.
قال: ماذا قلت فيه؟ قال: قلت فيه:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
يقول: ربيتك صغيراً وحفظتك حتى كبرت.
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبِتْ لسقمك إلا شاكياً أتململ
يقول: إذا زارك المرض فكأنه زارني أنا، فلا أنام وأنت المريض.
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبُوَّتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
ليتك يوم ما بررتني ولنت لي وتسهلت لي وأكرمتني؛ حفظت أذاك عني وفعلت كالجيران، لكن زيادة في النكاية آذيتني وشتمتني وعصيتني.
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
فيا سرور مَن بَرَّ أبويه! ويا حبور من بر أبويه يوم أن يشيبا؛ ويقتربا من القبر، يوم يكون أملهما بعد الله أنت، فتتقرب إلى الله ببرهما، حينها يفتح الله لك باب الجنة، ويسدل عليك رحمته، ويجعل أبناءك بارين بك، ويتولاك في الدنيا والآخرة.