وأما مع عدم وجود الإمام الراتب؛ فانه يَؤُم غيره إذا تغيب: لمرض أو لعذر آخر، ففي الصحيح عن سهل بن سعد، قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم بمهمات الأمة جميعها: بالجهاد، بالإفتاء، بالتعليم، بالتربية، بشئون الجيش، بكل شأن في شئون الحياة- فأتاه قبل صلاة الظهر قوم من بني عوف، وقالوا: يا رسول الله! أصلح بيننا -وهذه رواية سهل بن سعد - فقام عليه الصلاة والسلام ليصلح بينهم في العوالي، -والعوالي تجاه خيبر شمال المدينة - فتأخر عن صلاة الظهر، فأذن بلال رضي الله عنه وأرضاه، فانتظر الناس دخوله صلى الله عليه وسلم فلم يحضر، فقال بلال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! تخلَّف رسول الله صلى عليه وسلم، فهل أُقيم وتصلي بالناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام، فلما انتهى من الإقامة قال أبو بكر -من باب التواضع والتقدير واليسر-: يا عمر! صلِّ بالناس، قال: لا والله لا يصلي إلا أنت، فتقدم يصلي بالناس فلمَّا سوَّى الصفوف وأصبح في الركعة الأولى، أتى عليه الصلاة والسلام ودخل من الباب الذي عند بيت عائشة في ميسرة المصلى، وكان إذا أراد أن يخرج على الناس كشف صلى الله عليه وسلم الحجاب، وخرج عليهم عامداً إلى المحراب، فإذا رآه بلال أقام.
فالرسول صلى الله عليه وسلم توضأ ثم كشف الحجاب؛ فإذا الناس في الصفوف، فارتبك الناس؛ رسول البشرية ومعلِّم الإنسانية صلى الله عليه وسلم يصلي مأموماً اليوم، وهو لم يصلِّ في حياته إلا إماماً- فلما ارتبك الناس أخذوا يصفقون لـ أبي بكر وأبو بكر مواصل، وذلك لسببين:
إما لأنه لم يلتفت، وقيل: لأنه لم يفهم لأنه لا يدري ما الذي حدث ومن الذي دخل، فأخذوا يضربون على أفخاذهم، فلمَّا طال الأمر وعلت الرجَّة في المسجد، التفت رضي الله عنه -وللمسلم أن يلتفت للحاجة في الصلاة ولو في الفريضة، وقد صح بذلك حديث- فالتفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه تبسم صلى الله عليه وسلم وقال: مكانك، فرفع أبو بكر يده إلى السماء ورجع القهقري ففتحوا له فرجة فدخل، فأتى عليه الصلاة والسلام فبنى على الصلاة -وهم لم يركعوا وإنما هم في الركعة الأولى- وصلى فلما انتهى صلى الله عليه وسلم قال للناس: {ما بالكم صفقتم لما دخلت؟ من رابه شيء فليسبح، فإنما التصفيق للنساء} فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أبا بكر! {ما منعك أن تصلي حين أشرت إليك} فقال المتواضع الصادق الصديق الزاهد رضي الله عنه وأرضاه: [[ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بقوم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم]] كان بإمكانه أن يقول: عبد الله بن عثمان، فهو اسمه أو كنيته أبو بكر الصديق، لكن قال: (ابن أبي قحافة) لأن أبا قحافة جده، فأراد أن يصغِّر نفسه فقال: أنا ابن أبي قحافة كيف أصلي بالناس، قال: {فما بالك رفعت يديك} قال: حمدت الله على أنك وثقت فيَّ -أو كلاماً في معناه- وهو يقصد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مكانك} فهذه تزكية من الرسول عليه الصلاة والسلام.
فالرسول عليه الصلاة والسلام حين تخلف صلى أبو بكر بالناس.
وعند ابن خزيمة عن المغيرة بن شعبة وأصل الحديث في مسلم أن الصحابة خرجوا في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قمنا لصلاة الفجر ذهب صلى الله عليه وسلم، للحاجة وأبعد في الخلاء عليه الصلاة والسلام -لأنه كان إذا ذهب ليقضي حاجته أبعد حتى لا تراه العيون- فلما توضأ الناس وأذنوا لصلاة الفجر خافوا من أن تطلع الشمس فأقام بلال الصلاة، فلما أقام بحثوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يجدوه.
فقال عمر لـ أبي بكر: تقدم يا أبا بكر فصلِّ بالناس، قال: لا والله، قال: تقدم أنت، قال: لا والله، قالوا: من يتقدم؟ فتقدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فصلى ركعة، فلمَّا كان في الركعة الثانية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما سلموا رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يكمل، فخجلوا أيما خجل، والتفتوا إليه فسلم وتبسم لهم وقال: {أصبتم وأحسنتم}.
فهو إقرار بالكلام وبالابتسام منه صلى الله عليه وسلم.
وصلى أبو بكر في مرض موته عليه الصلاة والسلام، تلك الأيام حتى توفي عليه الصلاة والسلام.
فللمسلم إذا تأخر الإمام وعلم أنه تأخر يقيناً أن يصلي بالناس وليتبرع، وينوي -إذا تقدم إلى المحراب- بعمله وجه الله عز وجل، وأن يحتسب أجره على الله، وأن يعلم أن في الحديث الصحيح: {أن من أمَّ قوماً وهم به راضون، أجلسه الله يوم القيامة على كثيب المسك على ميمنة الرحمن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وكلتا يديه يمين} فإذا تقدم فليعتقد أن هذه دعوة، وأنه يريد الإفادة، وأنه يريد بها وجه الله عز وجل، فأعظم دعوة أن تتلو القرآن في الصلاة على الناس: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92] وإذا عُلم هذا فهذه الأعذار التي تبيح للمسلم أن يتقدم للإمامة إذا غاب الإمام أو مرض.