أما العنصر الثاني فهو متابعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أولاً: اسأل نفسك في صيامك، وصلاتك، وحجك، في هديك، في ليلك ونهارك من هو إمامك؟ من هو قدوتك؟ من هو الذي تحبه في الحياة؟
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
اسأل نفسك من هو قدوتك في الحياة؟ اعرض أعمالك على محمد عليه الصلاة والسلام وعلى أعماله فإنه برهان، زن أقوالك بأقواله فإنه ميزان، اعرض نفسك عليه فإن قبلت فبها ونعمت، إن وافقت النسخة النسخة فقد نجحت وأفلحت، وإن اختلفت النسخة عن النسخة فاعرف أن في البضاعة بهرجاً، وأن في العملة زيفاً، وأن في البضاعة غشاً لا يقبله الله، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
من الذي أحيا القلوب بإذن الله؟
من الذي غرس فيها لا إله إلا الله وكانت ميتة؟ من الذي أخرج للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأبياً وطلحة والزبير وحسان وابن عباس؟
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم
أليس كسافة؟ أليس خزياً وعاراً أن يحفظ بعض الناس تواريخ البشر وينسون تاريخ أعظم البشر! يقرءون سيرة أخس البشر ويتركون سيرة أكرم البشر؟! يحفظون آداب أحقر البشر الأقزام! ويتركون العظيم الذي لم يطرق العالم مثله!
والله لقد شهد الأعداء له، والله لقد اعترفوا بفضله، جولد زيهر المجري الذي هاجم الحديث يتهيب عن الهجوم على محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عظيم! إنه رجل عبقري! نشر الخير في الأرض "
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شَعْبٌ من الأموات أحياه
أهل الجزيرة، أهل الضأن، والغنم، والإبل، والعمالة، والجهالة، والضلالة، يخرجهم بعد خمس وعشرين سنة ليحملوا لا إله إلا الله في طشقند وسمرقند والهند ويقفون على ضفاف الأطلنطي ونهر الأوار.
بماذا أخرجهم؟ لقد أدبهم ووجههم إلى المنهج السليم؟!
فالمطلوب منا في العنصر الثاني المتابعة في الصيام، ما هو هديه في الصيام؟ وكيف كان صائماً؟ وأحسن من أدلكم على تأليفه في هذا الموضوع هو الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد.
فهديه صلى الله عليه وسلم في الصيام، أنه كان أصبر الناس على الصيام، يواصل الليالي والأيام ولا يأكل اللقمة ولا يشرب جرعة، فكان الصحابة يحبون أن يواصلوا مثله ولكن هيهات! شتان ما بين الفريقين والواديين والمثلين، هم فضلاء لكنه من نوع آخر!
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول: {إني لست كهيئتكم} ورفض أن يواصلوا معه قالوا: ولم؟ قال: {إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} يا للعظمة! يا للجلال! الله يطعمك ويسقيك فيكف تكون صائماً؟
قال ابن القيم: ليس طعاماً محسوساً، ولا شراباً محسوساً، طعام المعاني، طعام أرواح الكلمات النيرات التي تتنزل عليه من السماء، طعام الإشراق والحكمة، طعام المعرفة؛ ولذلك يقول الأندلسي يوصي ابنه:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
قوت الروح القرآن، قوت الروح المعاني، تجد الشاعر الذي يعيش الأحاسيس فينظم قصيدة جميلة فيشبع من قصيدته وجمالها، فينسى الطعام، وينسى الخبز والماء والفاكهة! فنقول: لم؟ فيقول: أنساني جمال التصوير والإبداع في القصيدة، والإشراق في المعاني أن آكل أو أشرب! فما بالك بمن جبريل يتنزل عليه بالوحي والكلام من السماء؟ قال: يطعمني ربي ويسقيني.
قال ابن القيم: يطعمه معاني وكلمات نيرات وحكماً، ثم يستشهد بقول شاعر عربي سافر إلى محبوبته! فنسي الطعام والشراب وأصبح على الناقة يمشي ويقول:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
هذا طعامه وشرابه عليه الصلاة والسلام يوم يواصل، أما الذي يُطْلَبُ منا: هو أن نعيش رمضان كما عاشه عليه الصلاة والسلام، فحياة النوم من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب ليست بحياة، وليس هذا بصيام، يصوم الإنسان وهو يحلم ويرى في المنام أنه صائم وهو لم يصم! لا جاع ولا ظمئ ولا عاش مع القرآن، أهذا صيام؟ من أين أتى هذا الصيام؟ حياة السهر في غير طاعة منذ صلاة العشاء، بل بعضهم يترك صلاة التراويح والقيام ويذهب للسهر حتى صلاة الفجر، يسهر مع أغنية ماجنة، أو عزف على الناي، أو رقصة وعرضة شعبية إلى السحر، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا!
قلت لليل: هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار؟
قال: لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
يوم تمتد الأكف: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] من يتوب عليك؟ من يهديك سواء السبيل؟ من يرزقك؟ من يحل مشكلاتك في الحياة؟ من يؤمن مستقبلك إلا الله؟ قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] كل المخلوقات يموت إلا الله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
يا إخوتي في الله! حياة الصيام هي حياة القرآن، حياة تحفظ سمعك وبصرك وقلبك عما لا يرضي الله.