قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبت خصيصة لآدم، فعَّلمه الأسماء كلها، كما في الآية.
أسماء البشر والحيوانات والدواب والمخلوقات، وكل شيء، قال ابن عباس: [[علمه اسم كل شيء، البقرة, والحمار، والفرس]] فعلمه سبحانه وتعالى أن هذا اسمه جبل، وهذه سارية، وهذا مسجدٌ، وهذه شجرةٌ، وهذه زهرةٌ، وهذا ماء، وهذا رجل، وهذه امرأة، وهذا طير، إلى غير ذلك من الأسماء، علَّمه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من تعليمه مرةً واحدة، هذا هو الصحيح.
وقال ابن كثير يتساءل: هل التعليم شيء لأشياء محدودة في عصر آدم، أم لمطلق الأشياء؟
الصحيح أنه علمه اسم كل شيء، وذات كل شيء، ومعنى كل شيء، هذا هو الصحيح.
ففي الصحيحين من محاجة آدم مع موسى عليهما السلام، أن موسى عليه السلام التقى بآدم! فقال له: يا آدم! أنت أبونا، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا وخيبتنا؟
موسى جريء شجاع! دائماً يستفسر كلَّمه الله عز وجل فما اكتفى بالمكالمة، وهو شرف عظيم، لكنه قال: رب أرني أنظر إليك، فهو جريء عليه الصلاة والسلام، حتى قيل: لا يصلح لبني إسرائيل إلا موسى، ويقول صلى الله عليه وسلم لـ عمر: {أنت أشبه الناس بموسى ونوح عليهما السلام، ولـ أبي بكر: أشبه الناس بإبراهيم وعيسى}.
فموسى يصلح لبني إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل كما يقول الأول: إذا رأوا الرجل المخادع خدعوه، أسيادٌ وفجرةٌ عند عدم الصوت، وحميرٌ عند وجود الصوت، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] فلا يقومون إلا بالصوت، ولذلك كان هارون رحيماً، فيحبوه بنو إسرائيل، وموسى كان قوياً في جسمه، وفي إرادته، وفي هيبته، وفي سلطته، كان بنو إسرائيل إذا غاب موسى يغتابونه في المجالس، فإذا وصل سكتوا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
خرج أربعين يوماً فعبدوا العجل، فأتى والصحف معه، فلما رأى العجل ورأى هارون أخذ بلحيته وألقى الألواح من يده، وأخذ يجره أمام الناس!!
والشاهد: أن الله علم آدم أسماء كل شيء، وذوات كل شيء، ومعاني كل شيء، وهي من مؤهلاته لأن يكون خليفة، لأن الخليفة والمسئول لابد أن يكون على بصيرة، ولذلك لما اختار الله لبني إسرائيل طالوت، قالوا: كيف يكون له الملك علينا ولم يؤت سعةً من المال؟ انظر إلى بني إسرائيل الرأسماليين حتى في القرآن وفي القرون السالفة، يقولون: ليس لديه بنوكٌ ولا شيكاتٌ ولا رصيد، فكيف يكون ملكاً؟ {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] ففي العلم عالم، وفي الجسم كذلك طويل، يصلح للملك
يقول شوقي:
والحسن من كرم الوجوه وخيره ما أوتي القواد والزعماء
علم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، أتى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالحيوانات، والعجماوات، والدواب، والحشرات، قال للملائكة: ما أسماء هذه؟! فقالوا: لا ندري.
ما اسم الفرس؟ قالوا لا ندري، ما اسم الحمار؟ قالوا: الله أعلم، ما اسم الشجرة؟ الله أعلم، قال تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] أي: إن كنتم صادقين أنكم أولى بالخلافة في الأرض، أو إن كنتم صادقين أنكم تعرفون أسماء هذه الأشياء، أو إن كنتم صادقين أنكم أعلم من آدم، أو إن كنتم صادقين أن عندكم علماً مكنوناً ليس عند آدم.
قالوا: سبحانك! ما أحسن الرد! أن سؤالنا اعتراض، سبحان الله!
لما ذكر التوحيد والشرك، فقالوا: سبحانك ما اعترضنا يا رب! تنزهت، وتقدس اسمك سبحانك! لا علم لنا إلا ما علمتنا، وهذا أدب طالب العلم أن يقول: لا علم لنا إلا ما علمنا الله، والله أعلم، ولا يتسرع بالفتيا، ولا يفتي بجهل، فإنه سوف يصيبه من الخذلان والحرمان ما الله به عليم، وتضطرب عليه أموره، ويتكدر قلبه، وينطفئ نوره، ويكون جسراً إلى جهنم للناس.
الناس يتورطون في مسائل الفروج والدماء، والطلاق والزوجات والأموال، فيأتون إليه، فيستحي أن يقول: لا أدري، فيقول: أرسلها وعلى الله مخرجها، فيتكلم بلا علم، وقد كان الصحابة من أشد الناس حذراً في الفتيا، وكانوا يتدافعونها ويتغير وجه الواحد منهم، إذا سئل عن مسألة يخاف أن ينزلق فيها، ولذا فمن لم يعرف فليقل: لا أدري.
يقول علي بن أبي طالب: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت عن مسألةٍ فقلتُ: لا أدري]].
وسئل مالك في أربعين مسألة فأفتى في ثمان، وقال في اثنتين وثلاثين مسألة: لا أدري!! قالوا: نضرب إليك أكباد الإبل من العراق، وتقول: لا أدري، قال: اذهبوا إلى الناس، وقولوا لهم: مالك لا يعرف شيئاً.
ومن الخذلان كتمان العلم، بعض الناس يحمله الورع البارد على كتمان الجواب حتى في أسئلة بسيطة.
يقولون له: كم يتمضمض الإنسان؟ فيقول: الله أعلم سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم! قالوا: كم أركان الإسلام فتح الله عليك؟ قال: الله أعلم لا أدري.
فهذا جهل، وهذا تكلم بلا علم؛ فجزاؤه النار، وهذا كتمَ علماً يلجم بلجامٍ من نار، والأوسط أن تتكلم في ما تعرف، وأن تقول في ما لا تعرف: الله أعلم لا أدري!
علمٌ بلا حكمة اضطراب، وحكمة بلا علم يصيبها جهل.
والإنسان يجمع في أصله بين اثنتين: {ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] قال ابن تيمية: ظلوماً يحكم بلا عدل؛ جهولاً يحكم بلا علم.
ولذلك يشترط أن يكون الحاكم عالماً عادلاً، ويشترط في العالم أن يكون عادلاً {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} [المائدة:8] فإن بعض الناس قد يتكلم بجهل ويحكم بظلم، والعدل والعلم صفتان جميلتان جليلتان.
قال تعالى: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] فسمى الحيوانات والعجماوات والجبال وكل شيء.
(أعلم غيب السماوات والأرض) هنا حذف المضاف للعلم به، أي (وغيب الأرض) والغيب ما يغيب عن العيون، ولا يعلمه إلا الله، والناس لا يعلمون إلاَّ ما يرون، وعلمهم بما يرون ليس علم إدراك! إنما علم مجمل ظاهر، أما الباطن فلا يعلمه إلا الله {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
وفيه شرف العلم، وأنه من أعظم المطالب في الحياة، وأن من جلس عند أهل العلم فهو أفضل ممن يتنفل بالصلاة، ومن يقرأ القرآن وحده {وأن من طلب باباً من العلم ليعمل به ويرفع الجهل عن نفسه، فهو أحسن من أن يركع سبعين ركعة!} وهذا الحديث عند الطبراني لكن في سنده نظر، أن تعلم باباً واحداً من العلم، خيرٌ من سبعين ركعة، وقد جاء من حديث أبي ذر.
وهذا يدل على شرف العلم، والعلم الشريف هو قال الله وقال رسوله، والعلم له وسائل:
لا يكفي القراءة وحدها! ولا يكفي الجلوس عند المشايخ! ولا يكفي حضور الدروس والمحاضرات! بل تجتمع الجميع، التدبر والحفظ والجلوس مع العلماء، ولو كانوا أقل منك علماً وبصيرة، فإن الله يمنحك بالجلوس في مجالس الذكر والعبادة فتحاً عظيماً.
يقول معاذ في سكرات الموت: [[ما كنتُ أحب الحياة إلا لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر]] وكان معاذ يجلس في حلق من هم أقل علماً منه ليفتح عليه من المعارك، ولأن هذا المتكلم قد يحضر مسائل تستفيدها ما سمعتها أنت!!
فعلى المسلم أن يحرص على طلب العلم، وأن يكون عنده وسائل في العلم، والله قد هيأ المسائل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، عندنا الآن الكتب محققة ومطبوعة ومنقحة، والشريط الإسلامي أمره عظيم، وشأنه جليل، وحاسة السمع تقدم على حاسة البصر، بل الإنسان يفهم بما يسمع أكثر مما يقرأ، والله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] فقدم السمع، فما يُسمع كثيراً سوف يُحفظ.
فالله الله في الحرص على الفائدة، والتدبر في الدين، والحرص على مجالس الخير والدروس والمحاضرات مهما كانت، وأياً كان المحاضر، فإنك لن تعدم فائدة، بل قد تخرج من بعض الدروس بخمسين وستين فائدة.
ذلك لمن أتى بقصد الله عز وجل، وطلب ما عنده.
قال تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] ما تكتمون في صدوركم وسرائركم، والله هو العليم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.