وكان عليه الصلاة والسلام يحبها كثيراً، ويقرأ بها هي وسورة الكافرون في ركعتي الفجر التي قبل الصلاة، ويقرأ بهما في ركعتي الطواف، ويقرأ بهما في سنة المغرب البعدية، يداوم على هاتين السورتين في هذه النوافل؛ فإنه يبتدئ النهار عليه الصلاة والسلام بركعتي الفجر؛ لأن {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] نفت الشرك، وبينت المفاصلة بين التوحيد والشرك، بين (لا إله إلا الله) وبين لا إله والحياة مادة، بين أولياء الله وبين أعداء الله، بين الكفر وبين الإيمان، بين الظلام وبين النور، أما (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الركعة الثانية فأخلصت التوحيد لله، وأخلصت الولاء، وذكرته في أجل المحامد؛ فإن الله يحب المدح، الله ممدوحٌ يحب المدح، ولا أحدٌ أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، ونزَّه نفسه، وأثنى على نفسه، وحمد نفسه، قال الأسود بن سريع: {ركبت مع الرسول عليه الصلاة والسلام رِدْفاً له، فقلت: يا رسول الله! إني نَظَمْتُ أبياتاً أمدح بها ربي، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أما إن ربك يحب المدح} ولذلك انظر إلى استهلالية سورة الأنعام، السورة الهائلة التي شيعها سبعون ألف مَلَك، حتى أنزلوها في الأرض، ولذلك سورة الأنعام هذه رهيبة رهيبة، فهي سياط من الآيات تضرب القلوب، وتستولي على الأرواح، وتطارد النفس من كل أقطارها، افتتحها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهجوم أدبي على أعدائه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
ونزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181 - 183].
وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
وأخبر بكلٍّ من حكمته، ورحمته، ولطفه.
وفي صحيح مسلم: عن عمرو بن الشريد، قال: {رَدِفْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدابة -بغلة أو حمار- فقال لي: أتحفظ شيئاً من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلتُ: نعم.
يا رسول الله! قال: هِيْه! أنشدني -كان عليه الصلاة والسلام لا يحفظ الشعر، أتى بشيء أحسن من الشعر، ولو كان يحفظ الشعر لقال عنه الكفار: شاعر، {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]- فقال: فأنشدتُه بيتاً، فقال: هِيْه، فزدته، فقال: هِيْه، فزدتُه، فقال: هِيْه، حتى أنشدتُه مائة قافية}.
من ضمن الشعر المنشود: أن أمية بن أبي الصلت نَظَمَ قصة موسى لما أرسله الله إلى فرعون.
وأمية هذا مات كافراً، سبحان الله! آمن لسانه وكفر قلبه؛ لأنه يريد أن تكون النبوة فيه، يريد أن يؤتى صحفاً منشرة، فما أعطاه الله النبوة، فكفر بالرسول عليه الصلاة والسلام.
فمن ضمن قصائده: أن الله عز وجل لما أرسل موسى إلى فرعون قال له: أأنتَ يا فرعون رفعتَ هذه؟ أأنتَ يا فرعون نصبتَ هذه؟ أأنتَ أنبت الحب؟ أأنت خلقتَ الزهر؟ فقال نَظْماً:
فقولا له أأنت سويت هذه بلا عمدٍ حتى استقلت كما هيا
وقولا له من ينبت الحب في الربى فيصبح هذا الحب بالحب دانيا
ثم أخذ يقول: وقولا له، وقولا له، وقولا له، فتأثر له عليه الصلاة والسلام وقال: {آمن لسانُه، وكفر قلبُه} {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد:36].
وفي صحيح البخاري وغيره: {أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه، أخذ كفيه الشريفتين العادلتين الرحيمتين فقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثلاثاً، ثم نفث فيهما ومسح ما أقْبَل من جسمِه ورأسَه وما والى من وجهه.
يفعل ذلك ثلاثاً، ثم ينام}.
لماذا؟ ليحفظه الله، وهو محفوظ.
وإذا العناية لا حظتك عيونُها نَمْ فالحوادث كلهن أمانُ