تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أسهم بين نسائه -أي: جعل عليه الصلاة والسلام قرعة- فإذا وقعت القرعة على إحداهن أخذها صلى الله عليه وسلم في السفر، وفي غزوة من الغزوات أسهم عليه الصلاة السلام فوقعت القرعة على عائشة، فأخذها صلى الله عليه وسلم وخرجت معها دينها ويقينها وخوفها من الله:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مسمعي وجناني
فما لفظت من بعد مرآك لفظة على القلب إلا عرجا بعناني
ذهبت معه صلى الله عليه وسلم، وغزا صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، وقد اختلفوا في اسم هذه الغزوة ولا يهمنا اسمها، إنما يهمنا الحدث والمعنى والمقصد والدروس والعبرة، ثم رجع عليه الصلاة والسلام من الغزوة فرجعت معه ورجع الجيش، وفي أثناء الطريق نزلوا في ليلة من الليالي، ليلة مباركة فيها محمد عليه الصلاة والسلام، خرجت من هودجها والهودج كالغرفة الصغيرة يضعه السلف على الجمال فترتحل فيه الظعينة من النساء، فتركب فيه فيغطيها ويسترها، وهذا ستر الإسلام، وحجابه وروعتة، يوم يجعل المرأة كالدرة المصونة المجوفة، لا تراها العيون ولا تمسها الأيدي، لتكون طاهرة مطهرة، أما دعاة الإلحاد والزندقة فيريدون أن تخرج المرأة فتراها العيون وتمسها الأيدي فلا تكون طاهرة ولا شريفة ولا معظمة.
هذا الهودج كانت عائشة تركبه رضي الله عنها وأرضاها، ثم نزلت من الهودج لحاجتها، فارتحل الناس وأتت هي تلتمس عقداً من الخرز كان في نحرها وانقطع، فالتمسته فلم تجد العقد، فأخرها عن الجمل وعن ركب الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهبت تلتمس العقد وأتت في آخر الليل، فوجدت الناس قد ارتحلوا فقد رأوا الهودج بجانب الجمل، فظنوا أن عائشة في الهودج، فحملوا الهودج على الجمل وربطوه، وكانت عائشة خفيفة فكانوا لا يفرقون بين وجودها في الهودج وخروجها منه، فذهبت الجمال، وذهب محمد عليه الصلاة والسلام، والجيش، وأتت إلى المكان فما وجدت لا صوتاً ولا قريباً ولا حبيباً إلا الله:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوى فصوت إنسان فكدت أطير
فجلست تقول: حسبي الله ونعم الوكيل! ومن قال هذه الكلمة ما تخلى الله عنه، ولا ما تركه ولا قطع حبله؛ بل وصله وحفظه، جلست متغطية مكانها متحجبة.