والإنسان إذا ضاقت عليه الضوائق يراجع حسابه مع الله عز وجل؛ فهذا يونس بن متى عليه السلام ذهب مغاضباً، يقول الله عز وجل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] فإنه لما ركب في السفينة اسْتَهَمَ معه أهل السفينة؛ وذلك حين تغير مسارها، وهبت عليهم الريح، وقال قائد السفينة: إن معنا رجلاً مشئوماً أتى بمعصية، ولا يمكن أن تنجو السفينة وهو فيها، حتى قواد السفن يعرفون أنه لا تتعكر مسيرتهم إلا بالذنوب.
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
فاستَهَمُوا على أن من تأتي عليه القرعة رمي به في البحر وسط الليل يونس عليه السلام نبي من الأنبياء، أرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون، ركب معهم فاستَهَمُوا فوقعت فيه القرعة، قالوا: قد تكون خطأ، أعيدوا مرة ثانية، فأعادوا فوقعت فيه، فأعادوا فوقعت فيه ثالثة، فأخذوا بثيابه وشحمه ولحمه ودمه وعصبه وألقوه في البحر.
انظر إلى هذه الرفقة والصحبة ما أحسنها! لا حبال، ولا أخ، ولا اتصال، ولا وصية، ولا شيء، فوقع وسط البحر، وسط الليل، وليته حين رُمي كان قريباً من الشاطئ حتى يسبح، أو في النهار حتى تراه سفينة أخرى أو قارب، ولكن في انقطاع لا يعلمه إلا الله، ولما وقع تلقته بحفظ الله ورعايته سمكة فابتلعته في ظلمة البحر وفي ظلمة الليل وفي ظلمة بطن الحوت، فإلى من يلتجئ؟ إلى الإخوان والأقارب والعشيرة؟ لا.
إنما يلجأ إلى الله، فأول ما وقع قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
وقد ورد في أثر إسرائيلي قالوا: فسمعت الملائكة قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فبكت، وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف.
قال: ما عليكم، هذا عبدي كان يسبحني في الرخاء، وعزتي وجلالي لأنجينه.
ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144] أي: رصيده طيب، أعماله في الرخاء طيبة معنا، كان معنا في السعة ووقت السرور والحبور مطيعاً لله عز وجل، لكن بعض العصاة لا يذكر الله عز وجل إلا في الأزمات، إذا أتاه حادث سيارة أو أحس أن الطائرة سوف تتحطم في الجو قال: لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين.
لكن إذا نزل الأرض لعب بالوَتَر، وبالكأس، ومارس المجون والخلاعة، يسمع الأذان وكأن بينه وبينه ألفَ رامٍ، ولا يلقي للإسلام ولا للدين ولا للصالحين ولا للقرآن بالاً، لكن إذا رأى الشدة رجع إلى الله عز وجل، وهذا مثله مثل فرعون؛ أفجر فاجر، وأطغى طاغية، وأحمق إنسان على وجه الأرض، ادعى الألوهية، استحيا كثير من الملاحدة أن يدعوا الألوهية إلا هو، قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] يقول ابن الجوزي: اغتر فرعون بنهر ما أجراه.
ما أجرأه! يقول: اغتر لما رأى النهر، والمعنى: أنه ما أجرى النهر، وما أجرأه على الله عز وجل! ولذلك لما وقع في الهلاك قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] انظر إلى هذا المؤمن، لطخ صحائفه السوداء وألحد في دين الله ثم آمن بالله، قال الله عز وجل: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
إذاً: هؤلاء كان لهم أعمال صالحة، لم يقولوا لَمَّا دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة كلٌّ منكم يحدث ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمواصفاته في الحياة، فيأتي الأول فيقول: اللهم إني فلان بن فلان وابن فلانة بنت فلان، ومن آل فلان أهل الكرم والجود، وأهل الشجاعة والمجد والشَّيَم، الذين شاركوا في المعارك، وتولوا المناصب، ولم يأتِ الآخر فيقول: إني ابن الغني صاحب رأس المال الفلاني، صاحب السيارات، والعقارات، والدور، وقلة الحياء، لا.
بل أتوا إلى الأعمال الصالحة، سواء أكانوا أحراراً أم عبيداً، سواء أكانوا سوداً أو حمراً أو بيضاً؛ لأن الألوان عند الله ليست مقياساً، ومعمل ألوانه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
بلال سيد من السادات، قصره كالربابة البيضاء، يمشي في الجو، في سماء الجنة، وأبو طالب وأبو لهب في نار تلظى {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] هذا ميزان الله عز وجل.
قال: {فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم}:
ولم يقولوا: بأعمالكم؛ لأن فيها خيراً وشراً، ولكن ادعوا الله بصالح الأعمال.