(لا أدري) نصف العلم ونصف الجهل، ومن ترك (لا أدري) أصيبت مقاتله، وإذا أتى في القرآن {وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب:63] كما هي فمعناه: أنه لن يجيبه بعدها، وإذا أتاك (وما أدراك) فإنه سوف يجيب بعدها.
مثلاً: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] فأجابه بقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] وأيضاً في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10] أجابه بقوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10] وبالمقابل لما قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] لم يخبره، وهذه قاعدة.
وفي حديث لكنه مرسل، ولا يصح: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار} وإذا رأيت الإنسان يسارع في الفتيا فاعرف أن فيه خبلاً، أو أنه قليل العلم ولا يخاف الله.
وكان أحد التابعين يمر ببعض الشباب يفتون الناس، قال: ويحكم!
تسألون عن مسائل، والله لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر.
وكان عمر يسأل الأنصار في الاستئذان، وذلك لما طرق أبو موسى عليه الباب ثم ذهب بعد الثالثة، قال: [[يا أبا موسى! لماذا رجعت؟
قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع}.
قال: والله لتأتيني بشاهد، أو لأوجعنك ضرباً]] فذهب إلى الأنصار واستفتاهم، فصدقوا أبا موسى.
بينما نحن الآن في كبار المسائل يخوض فيها الكبير والصغير.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ هذا زهراني من زهران، وهو من أذكياء العالم، هذا لو كان حياً لأخذ جائزة نوبل وهو يشرب الشاي، وهو الذي اكتشف علم العروض وعلم القافية وعلم الحساب، قال: لئن طال بي العمر إن شاء الله لأعلمنَّ الجارية حساباً تذهب إلى البقال ولا يظلمها، وكان ذات يوم يفكر بعد صلاة العصر ويغمض عينيه من كثرة التفكير ويمشي فاصطدم بسارية المسجد، ومات بأثرها، وكان من الأذكياء رحمه الله، ودخل عليه ابنه وهو يوزن البحور السبعة عشر أو الستة عشر التي اكتشفها وهي: مفاعلة مفاعلة فعول، مثل إذا أردت توزن بيتاً، مثلاً:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول مستفعلٌ فعلٌ مستفعلٌ فعلٌ
أو: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل -من الطويل-
فعولٌ مفاعيلٌ فعولٌ مفاعلُ
كان يتنتن على أصابعه، فدخل ابنه وهو في الغرفة يتنتن، ويكتشف البحور، فقال ابنه: يا أماه جُنَّ أبي!! فقال في بيتين:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعرفتُ أنك جاهلٌ فعذرتكا
وهي من أصعب الأبيات، وكأنها جُدت من الصخر، لكنها تنبئ عن ذكائه.
يقول الخليل بن أحمد: الناس أربعة:
رجل يدري ويدري أنه يدري؛ فذاك عالمٌ فاسألوه.
ورجلٌ يدري ولا يدري أنه يدري؛ فذاك غافلٌ فنبهوه؛ قولوا: عندك علم، عندك خير، علِّم الناس.
ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذلك جاهلٌ فعلِّموه.
ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فذاك أحمق فاتركوه.
هذه العقليات الجبارة، هي التي قدمت الحضارة للغرب، وبعضهم يقول: خطأ ليس بصحيح.
هذا الخليل بن أحمد، وجابر بن حيان، وأولاد بني شاكر قدموا علم الهندسة، وأصول التربية، ثم بنى عليها الغرب.
ونحن وقفنا ندندن على العود، وعلى ما يطلبه المستمعون، حتى تقدموا علينا في الذرة والفضاء ولم نقدم للعالم شيئاً.