وفي الحديث: التواضع، وهي أكبر سماته صلى الله عليه وسلم، فهو لا يحمل ذرة واحدة من الكبر، بل كان أقرب الناس إلى الناس، يجلس على التراب، وتأخذه الجارية بيده؛ فيذهب معها في سكك المدينة، ويقف مع الأعراب، ويبيع ويشتري في السوق، ويأخذ الدابة فيربطها ويقودها صلى الله عليه وسلم، ويركب الحمار، ويكنس ويَقُم البيت، ويرفع الثوب، ويخصف النعل، لكنه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه} كلما تواضعت رفعك الله، يقول: انتعش انتعش، أي: ارفع رأسك، وكلما تكبر الإنسان، قال: اخسأ فلن تعدو قدرك.
ولذلك أكبر الناس في نفوسهم؛ أصغرهم في قلوب الناس، حتى تجد المتكبر إذا مر تلعنه قلوب الناس، فهو حقير لا يقيمون له ولو ذرة، والمتواضع ليس في نفسه شيء؛ وإذا مر سلمت عليه القلوب وحيته.
يقول البخاري: باب المقة من الله، قال أهل العلم، كما قال ابن حجر: الصيت الحسن والثناء الحسن من الواحد الأحد، ولا يعطيه إلا الله لكن بالتواضع، فأوصي نفسي وإياكم بالتواضع لكل أحد، ومن التواضع: البشاشة والبشر، أي: من علامة المتكبرين أنه لا يسلم كثيراً، يريد أن تسلم عليه ولا يسلم عليك، ويقف مكانه حتى تقرب أنت لحضرته ولشخصيته العظمى فتسلم عليه، ومنه كذلك أنه لا يقوم، وإذا مد يده أعطاك رءوس الأصابع، ويتنحنح كثيراً، والتفاتاته التفاتات كبر، وتصرفاته عنجهية، ويتحدث عن نفسه دائماً: قلت، وفعلت، وكلمت، وراجعت، ونزلت، ودخلت، وأكلت، وشربت ترجمة لحياته.
وهذا مرض خطير نسأل الله أن ينجينا وإياكم منه، فأكبر مِيَزَه صلى الله عليه وسلم التواضع، حتى يقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
دخل عليه رجل وهو في مكة عليه الصلاة والسلام، ولما رأى هذا الرجل هيبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعظمته، وجلاله، ونوره، أخذ يرتعد، فقال: {هون عليك فإني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} نعم.
كانت تأكل القديد لكنك أصلحت العالم، وحولت مجرى التاريخ، لكنك أقمت الدنيا وأقعدتها، لكنك دكدكت جيوش الضلالة، ونسفت كل كيان للجاهلية على وجه الأرض، نعم.
لم يغير أحد مجرى التاريخ كما فعل عليه الصلاة والسلام، ولا نقل أمة ضائعة ضالة من مكان إلى آخر مثلما فعل عليه الصلاة والسلام.
وأكبر ميزة له عليه الصلاة والسلام كما في الحديث، قال أنس: {كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً} وهذا مصداق لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وورد أن سعد بن هشام قال لـ عائشة: كيف كان خلقه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: {كان خلقه القرآن} وهذا في صحيح مسلم.
وأكبر معالم خلقه صلى الله عليه وسلم تدور على أربعة: الصبر، والشجاعة، والكرم، والتواضع.
فأما الصبر: فكان من أصبر الناس، بلغ به الجوع إلى أن أخذ الحصى وربطها على بطنه، فما شكا ولا بكى ولا تذمر ولا تأسف، وإنما استمر في دعوته حتى بلغت مغرب الشمس ومشرقها، وضُربت بناته، وأوذي، وأخرج من دياره، وحورب، وقوتل، وماتت زوجاته وقريباته، وأعمامه، وأنصاره، والشهداء حوله، فما ازداد إلا صرامة وصلابة ومضاءً.
وأما شجاعته: فكانت السيوف تلعب عن يمينه ويساره، والرماح تتكسر على رأسه، وهو واقف لا يتزحزح خطوة واحدة، هل تعلمون أحداً أشجع من علي؟ يقول علي: [[والله لقد كنا إذا التقينا بالأعداء، واحمرت الحدق، واشتد الهول؛ نتقي بالرسول عليه الصلاة والسلام فيكون أقربنا من القوم]] إذا كان علي على شجاعته يتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويتترس به، فما بالك بالرسول عليه الصلاة والسلام، وفي معركة حنين انهزم كل الجيش، ولم يبق إلا ستة والرسول عليه الصلاة والسلام، فنزل من على بغلته وسل سيفه صلى الله عليه وسلم، وقال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ولذلك أجمع أهل السير أنه لم يكن أشجع منه أبداً، وسمع صوتاً مرة من المرات فنهض صلى الله عليه وسلم على فرسه حتى أدرك الصوت والغارة، وعاد وما كلم أحداً من الناس.