السبب الرابع هو: مجالسة وزيارة الصالحين: وقد قال الإمام الشافعي رحمه لله:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
ومن الأخطاء: أن ترى بعض الشباب هداه الله قبل مدة وجيزة مع أهل الخير، ثم تجده مع الفسقة فإذا قيل له: ما لك؟ قال: أريد أن أدعوهم إلى الاستقامة والالتزام، وأصبحت هذه ذريعة في يد كل إنسان، ويبقى سنتين وثلاث وعشر سنوات، وهم لم يتأثروا به، بل قد يسحبوه معهم، لأن بعض الناس ضعيف الشخصية، إذا جلس مع أهل الفساد جرّوه.
إذاً حضور مجالس الخير هي من أسباب الهداية قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وتعالى يضل: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] وعهد الله قيل: ما أخذه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من الناس من أنه لا إله إلا هو, وقيل: إذا عاهدوا قوماً نقضوه, وقيل: عهود الإسلام جملة وتفصيلاً وهو الصحيح.
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] لمن هذا الخطاب؟ قيل: لبني إسرائيل، وقيل: للمشركين، وقيل: للمنافقين، والصحيح أنه للجميع.
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
وهذا شيخ كبير عجوز ضعيف نحيل فقير جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ابني جعت ليشبع، وظمئت ليروى, وسهرت لينام, وتعبت ليرتاح, فلما شب -يا رسول الله- وأملت فيه الأمل بعد الله تغمط حقي, ولوى يدي, وظلمني، وضربني, فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم, هل تتصور في العالم أفجر من إنسان رباه أبوه ثم بعد أن صار شيخاً كبيراً، معدماً ممقوتاً، أو محتقراً مصغراً عند الناس يريد أن يلتجئ بعد الله إلى ابنه، فيأتي هذا الابن بقوته وعضلاته فيضطهد هذا الشيخ! هذا ظلم عظيم, قال عليه الصلاة والسلام أقلت فيه شعراً؟ -لأن العرب تنفس عن همومها بالأشعار, امرئ القيس طال عليه الليل فقال:
الا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد منعم قليل الهموم لا يبيت بأوجال
فالشاهد أن العرب كانوا ينفثون همومهم بأشعار، فقال: نعم يا رسول الله, قال: ماذا قلت؟ قال: قلت لابني:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
ثم يقول:
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفضاضة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
يقول: ليتك فعلت كالجيران, ليتك تفعل مثل الناس, بعض أبناء الجيران أبر إليهم, وقد رأينا من بعض الآباء إذا أراد أن يرسل أحداً إلى الأسواق يعصيه ابنه فلا يرسله، ولا ينقله في مشواره ولا يؤدي له خدمة, فلا يؤدي له إلا أبناء الجيران.
ولذلك ورد في بعض الآثار: [[لئن يربي أحدكم في آخر الزمان جرواً خير من أن يربي ابناً]] لا صلاة ولا صيام ولا قراءة ولا نوافل ولا صلاح ولا طاعة, إنما هو جثة هامدة في البيت, أبشر به في كل شر وأبشر به في كل جريمة، وأبشر به في كل معصية, لكنه عند الخير معطل, فهذا من باب القطيعة، بل من أعظم القطيعة؛ نسأل الله العافية والسلامة.
ذكر أهل السير والأدب والأخبار: أن رجلاً من العرب أتاه ابنه في عشية من العشايا فقال له الأب: لم تخلفت؟ قال: وأنت تقول: لم تخلفت؟ فأخذ يد أبيه فلواها! وقال:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
قالوا: فلوى الله يد الابن حتى مات وهي ملوية! {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة:27] والقطيعة أن تقطع كل ما أمرك الله أن تصله، ومن قطعه فقد شمله هذا التنبيه والتهديد, أمرك الله أن تصل ما بينك وبينه, وما بينك وبين أبيك, وما بينك وبين أمك, وما بينك وبين أرحامك, وما بينك وبين الناس.
وعند الطبراني في حديث قدسي: أن الله عز وجل يقول: {يا بن آدم! هي ثلاث: واحدة بيني وبينك, وواحدة لك, وواحدة بينك وبين الناس, فالتي بيني وبينك: أن تعبدني، وأن تشكرني، وتكف عن معاصيّ لأرحمك, والتي لك: كلما استغفرتني غفرت لك, والتي بينك وبين الناس: أن تأتي إلى الناس بما تحب أن يأتوا به إليك} وهذا من باب الصلة التي أمر الله بها تبارك وتعالى.