Q ننتقل إلى موضوع مادي، وهو أن بعض الشباب الملتزم بالشرع يصدف ويعزف عن جمع المال، بحجة الزهد والانقطاع، فهل هذا منطق سليم؟ وما النظرة الشرعية في ذلك؟
صلى الله عليه وسلم ليعلم أن الإسلام لا يعترف بالدروشة، والتصوف الهندوسي الذي ألقي على المسلمين، كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره، وهذا سبق إليه كثير من أهل العلم القدامى والمعاصرين والذين نقلوا إلى الناس الأحاديث الموضوعة في الزهد والانقطاع إلى الله، والتبتل الذي لم يرد في الإسلام: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ليس لذلك أصل في الإسلام، فإنه لو طالع الكتاب والسنة فإن القرآن يقول: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وفي السنة ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحث على طلب المال الحلال، وصرفه فيما ينفعه ويرضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وكذلك واقع السلف يشهد, فـ أبو بكر يدخل الجنة بماله، وعثمان رضي الله عنه يكفيه قوله صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} و {اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر} وإذا الصحابة يجمعون الأموال، وإذا هم أهل إبل وغنم، وإذا هم يشيدون القناطر، ويبنون المساجد، وينفقون في سبيل الله، ويطعمون الجائع ثم تمر بنا السنوات ويندثر هذا الفقه، ونأتي وإذا كثير من أهل الطاعة ينزوون عن طلب المال، وأصبح كل شيء عندهم حراماً، وتجدهم يعيشون في فقر وانزواء، فإذا أراد أحدهم المال -ولا بأس أن أتباسط في هذا الحديث- أقام له مكتباً للشحاذة، فيدور بملفه وبشهود من أهل العلم والكبار والقضاة أنه محتاج، وفقير ومسكين فيظل طارقاً الأبواب، ويريد أن يتزوج، فلا تأتي زوجته إلا بشق الأنفس، وبعد أن تبلغ قلوب التجار الحناجر، ويظنون بالله الظنونا ثم بعد ذلك يريد أن يشتري سيارة، فيبدأ مشروعاً آخر من مشروع الشحاذة على الطريقة الإسلامية وعلى سبيل المثال:
إذا أردنا أن نبني مسجداً في بلادنا أو في بلاد العالم الإسلامي عموماً فإنه تقال المحاضرات والكلمات ثم يصطف الشباب بكراتينهم عند أبواب المساجد، يجمعون التبرعات، ثم بكينا عند الموعظة وصحنا، ودعونا لهم بكل دعوة، ودعونا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفق من تبرع، فلا زلنا نجمع ونجمع الأيام الطويلة لكي نبني مسجداً واحداً، ثم خذ مثلاً على ذلك مشروع الكتب، أو مراكز إسلامية، أو أشرطة، أو دعماً لمشروع خيري، أو غير ذلك، فوجدنا أنفسنا بعد حين أننا نعيش مأساة اقتصادية مالية نحن الذين أخطأنا فيها.
ولو وجدت شركة إسلامية صافية بالمسمى الشرعي، ينتظم فيها أعضاء، أو جمعية كبرى للدعاة والأخيار وطلبة العلم، ومن أهل الصحوة، ومن أهل المبادئ الحقة؛ لما احتجنا لأحد وسيكون لدينا مؤسسات يمكن أن تقوم ببناء عشرات المساجد والمراكز ونحو ذلك.
لكن في الجانب الآخر نجد أن العلمانيين وكثيراً من العصاة المنحرفين يسير الواحد منهم المليار كما نسير نحن الريال الواحد، ويمكن أن يشتري ضمائر وأقلاماً وصحفاً ومجلات في لحظة واحدة.
فأنا أتساءل من أين أتوا بهذا الفقه؟! إن علينا أن ننقذ أنفسنا، والحقيقة أن الإخوة أرادوا في الأخير أن يبدءوا مشاريع تجارية لكنهم سلكوا مسالك ليست هي المطلوبة، لأنها بدائية جداً، فبعضهم الآن يركز على مسألة التجارة بالتمر، ويظل ست سنوات لا يبيع إلا في التمر السكري والمكسجي وغيره، فكل ما ربحه في عشر صفقات خسره في صفقة واحدة، وبعضهم يتاجر بطيب الورد والصندل، فيظنون أن الحلال فقط في هذا.
وأنا قصدي أن توجد مشاريع كبيرة جبارة، كتكوين شركة مساهمة يدخل فيها ألف عضو، وهذه الشركة في كل العالم، في البلاد الأوروبية والشرقية, في اليابان وقبرص، فتكون مشاريع جبارة كما يفعل كثير من التجار، وعسى أن يكون هذا قريباً.
ملاحظة أخرى لها اتصال بهذا: أن الإسلام لا يعترف بالدروشة في المظهر والبيت والمركب: {إن الله جميل يحب الجمال} وإظهار الدين في قوة وعنفوان هو المطلوب، وكان مالك يلبس بردة جميلة فيقال له في ذلك؟ فيقول: إني أحب أن أعز الدين وكان ابن عباس يلبس بردة بألف دينار إكراماً لدين الله فعلى العبد أن ينتبه لمثل هذا، لأنه وجد في بعض من اهتدى أنه ترك زيه وهندامه وشكله وشخصيته بحجة أن هذا من التقشف ومن الزهد والبذاذة، وهذا شيء والبذاذة والزهد شيء آخر!!