الأمر: أن علينا ألا نبقى دعاة كلامٍ للناس، بل مع كلامنا نقدم خدمات للعالم وللناس، وهذا نقصٌ نعيشه جميعاً، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يؤلف الله عليه قلوب الناس بكلامه وخطبه ومحاضراته فقط، بل بأخلاقه وتعامله.
ولعلك تجد صالحاً في حيٍ من الأحياء، يقف سلبياً عن مشاكل الحي وحوائجه ومتطلباته، ثم يأتي يوم الجمعة، فيلقي عليهم خطبةً عصماء، فلا يتقبلونها؛ لأنهم ما وجدوا له أيادٍ بيضاء قدمها إليهم، مثل ماذا؟ زيارة المريض، الوقوف مع الناس في مناسباتهم: تفقد الجار إطعام المحتاج، زيارة المسكين، السؤال عن الغائب عن المسجد، الوقوف مع المنكوبين، فهذه تساوي آلاف المحاضرات.
الأمر الثاني: اكتشفنا سلبيةً يعيشها كثير من الناس حتى من الصالحين، مثل ماذا؟ تجد أن عنده عواطف، حباً لله ولرسوله وللمؤمنين، لكنه لا يقدم شيئاً، يفرغ هذه العاطفة في خطب رنانة مشحونة بالإبداع وبالكلام المسجوع، وبالأسلوب الضخم، والغضب، والتفجر، ثم يخرج فلا ينتج شيئاً، ولو أنه حبس هذه الكلمات، واقتصد في هذه الألفاظ، وفرّغ طاقته في عملٍ منتج ودعوة، أو إهداء شيء طيب من الكتيبات والأشرطة، أو القيام على أحوال الناس، أو بأي وسيلةٍ تنفع الإسلام لكان خيراً من هذا الزبد: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17]
واكتشفنا أن الكفر ملةٌ واحدة، وأنهم أعداءٌ لنا جميعاً، وأنه يجب علينا أن نؤاخي من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأما الناس فمهما ناصروا فلمبادئهم ولمصالحهم والله أعلم، لكننا نحن لا بد أن نحمل الولاء، وأن نعرف أن هذه الأمة مقدسة، قدسها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالتوحيد الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم علينا كذلك أن نعد أنفسنا للموت، وألا نخاف من شبح الموت، فنعد الطفل وهو صغير للأيام الحاسمة والساعات المهلكة، ونعلمه كيف يستقبل الموت برحابة صدر.
يقول أهل السير: كانت فاطمة أم علي بن أبي طالب وهو طفل وتقول:
بأبي وأمي حيدره كليث غاباتٍ كريه المنظره
وحيدرة الأسد، فكانوا يقولون وهو طفل: إذا سقط على الأرض ووقع على رأسه فإنه لا يبكي!!
ولكن تجد بعض الأطفال في الثانية عشرة لا يستطيع أن يخرج بعد صلاة العشاء من البيت، خوفاً من شبح الموت، فـ علي رضي الله عنه يحضر المعارك دائماً ويقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غاباتٍ كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
وهذه هي التي عاشها أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما نحن نعيش شبح الموت.
وقد شارك في ذلك بعض الوسائل فخوفونا من بعض الناس ورسموا له أنياباً وضروساً وعيوناً، حتى رأيناه في المنام، فخاف الأطفال والنساء والكلاب والقطط من هذا المخلوق وهو ضعيف لا يساوي شيئاً.
فعلينا أن نبني أنفسنا على ألا نخاف الموت وأن نعرف أننا أبناء الحروب، ورثناها كابراً عن كابر، وأن من أجدادنا خالداً، وسعداً وصلاح الدين وطارقاً.