يدخل عليه الصلاة والسلام -والقصة عند ابن اسحاق وابن هشام في السيرة - في غار ثور فاراً من المشركين، طاردوه بالسيوف، والرماح يريدون اغتياله، فدخل في الغار معه أبو بكر {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] فطوق المشركون الغار، وأرادوا دخول الغار، فأرسل الله عز وجل العنكبوت، فنسجت بيتها، وأرسل الحمامة، فبنت عشها على فم الغار، فأتى شباب مكة يريدون دخول الغار، وإذا العش والبيت في فم الغار، قالوا: لم يدخل محمد الغار:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
فصعدوا على ظهر الغار، وأخذوا ينظرون إلى داخل الغار، وأبو بكر يرتجف، ولكن الموحد الكبير أستاذ العقيدة وشيخ التوحيد محمد عليه الصلاة والسلام، الذي أتى بلا إله إلا الله بجانبه كالجبل، قال أبو بكر: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدميه لرآنا، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: لا تحزن إن الله معنا.
هذا هو التوحيد، لا تحزن إن الله معنا، ومن كان الله معه، فمن يخاف، ولماذا يخاف؟ ومن يرهب؟ ولماذا يرهب؟ لأن مدده وسنده.
يقولون كما يذكر الذهبي وغيره: حضر خالد بن الوليد معركة اليرموك، كان جيش خالد ثلاثين ألفاً، وجيش الروم أكثر من مائتي ألف.
يوم قاتلنا بلا إله إلا الله، لم نغلب الناس بالجيوش ولا بالعتاد، لكن غلبناهم بالتوحيد، يقول محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عامي موحد يغلب ألف مخلط.
فحضر خالد بن الوليد، فخرج الروم كتائب كالجبال، قال أحد المسلمين: يا أبا سليمان يا خالد! ما أكثر الروم وما أقلنا! قال خالد: لا.
والله ما أكثرنا وما أقل الروم! قال: يا أبا سليمان، نفر اليوم إلى جبل سلمى وجبل آجا - يعني في حائل - قال خالد: لا والله، إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل، فقاتل خالد، فنصره الله نصراً مؤزراً {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
أتى عليه الصلاة والسلام، فعلم الصحابة التوحيد تعليماً عملياً، طبقها في حياتهم، علمهم أن الله معهم، علمهم أن الله يراقبهم، علمهم أن الله يطلع على أسرارهم، يبيع الواحد في السوق سمنه وعسله وبضاعته فيراقب الله، يسافر أحدهم والله معه بعلمه، يتكلم أحدهم أو يخاصم أو يدعي والله نصب عينيه كما قال صلى الله عليه وسلم: {اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك}.
هذا هو التوحيد، يقول أبو بكر، كما ذكر عنه الإمام أحمد في ترجمته في كتاب الزهد: [يا أيها الناس، استحيوا من الله حق الحياء، فوالذي نفسي بيده إني لأخرج لقضاء حاجتي، فأضع ثوبي على وجهي حياءً من ربي]] هذا أبو بكر لأنه أصبح في منزلة الإحسان، أو درجة الإحسان العظمى: {اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره؛ فإنه يراك}.
وعلمهم عليه الصلاة والسلام أن الله معهم بعلمه كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] بعلمه {وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7] بعلمه سبحانه.
يقول أهل السير بأسانيد صحيحة: جلس عمير بن وهب - جاهلي من كفار مكة جلس تحت ميزاب الكعبة مع صفوان بن أمية، فقال عمير بن وهب: يا صفوان، أما ترى ماذا فعل بنا محمد، يعني في معركة بدر، قتل آباءنا وإخواننا، وأرحامنا، يا ليت لي من يكفيني بأهلي ومالي، وأذهب إليه، فأقتله في المدينة، قال صفوان: أنا أكفيك مالك وأهلك، واذهب إليه، فاقتله، فسم عمير بن وهب سيفه بالسم شهراً كاملاً، حتى أصبح السيف أزرق، ثم ذهب يمشي في الليل، وينام في النهار، حتى وصل إلى المدينة، ليقتل محمد عليه الصلاة والسلام.
يقول الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] الذي يحفظك من الناس هو رب الناس.
وصل عمير بن وهب، فلما اقترب رآه عمر، ورأى الشر في وجهه، فأخذه بتلابيب ثوبه، وأدخله على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال له عليه الصلاة والسلام: يا عمير بن وهب، ماذا جاء بك؟ قال: جئت أزور إخواني الأسارى -أسارى بدر- قال عليه الصلاة والسلام: كذبت، وإنما جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة يوم كذا وكذا، فقلت أنت كذا وكذا، وقال لك كذا وكذا، فقلت له: أنا أقتل محمداً وما كان الله يخلي بيني وبينك لتقتلني، قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فمن الذي أعلمه؟ قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].