حينها ألقى عليه الصلاة والسلام بيانه التاريخي، وخطابه الشهير على المنبر، وأخبر ماذا فعل أبو سفيان بالناس، يوم أتى بثلاثة آلاف يهدد أمن مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأعلن صلى الله عليه وسلم الحرب عليه، لأن الظالم إذا اعتدى فما جزاؤه إلا أن يرد اعتداؤه.
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
فجرد حسامك من غمده فليس له اليوم أن يغمدا
وقف عليه الصلاة والسلام وأصحابه أصحاب المهج الحارة والكتائب المنتصرة من الذين بايعوا الله يوم العقبة وقبلها وبعدها، والذين اشترى الله أرواحهم منهم.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فاطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
واستشارهم عليه الصلاة والسلام وهم في المسجد، وليس بينهم وبين أبي سفيان إلا ما يقارب الميل والمعركة حتمية لا بد منها، هل ترون أن نبقى في المدينة عاصمة الإسلام، فتدار رحى الحرب داخل العاصمة؟ أو نخرج إليهم، خارج حدود المدينة فنقاتلهم هناك؟ وما هو الرأي الأحسن؟ ولماذا يشاورهم عليه الصلاة والسلام والله قد آتاه من الرشد والسداد والحكمة ما الله به عليهم؟
إن المشاورة معناها: التواضع، ومعناها: التربية، وذلك درس لكل مسئول أو مدير أو رئيس هيئة بأن يشاور مقربيه وأعضاءه، ليكون أقرب إلى قلوبهم، يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فلذلك شاورهم عليه الصلاة والسلام، وإلا فإنه يعلم الرأي السديد، وكان رأيه أن تبقى المعركة داخل مدينته عليه الصلاة والسلام، وأن تدار رحى الموت داخل العاصمة، وأن تبقى السكك مفتوحة للكتائب، ويقوم النساء والأطفال برجم المعتدين داخل شوارع المدينة؛ لأنهم سوف يدخلونها، وهذا هو الرأي السديد في منطق الحق، وقد ذكر ذلك بعض الذين تكلموا في سياسته صلى الله عليه وسلم، وأظنه سعيد حوى وقارن بينه صلى الله عليه وسلم وبين نابليون في الجوانب العسكرية، ولكن أين الثرى من الثريا.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فقام الكبار والشيوخ من الصحابة، وقالوا: نرى رأيك يا رسول الله! نرى أن تدار المعركة داخل المدينة، فهو الرأي السديد، وقام عبد الله بن أبي رأس الضلالة وعمود الجهالة المنافق الشهير حربة النفاق، وما أصاب في حياته إلا في هذا الرأي، والمخطئ قد يصيب، والظالم قد يعدل ولو مرة، فقال: يا رسول الله! والله ما اعتدى علينا معتدٍ فبقينا في المدينة إلا هزمناه، فنرى أن تبقى في المدينة حتى يدخلوا، فإنا إذا قاتلناهم هزمناهم بإذن الله، وهذا هو الرأي.
ولكن شباب الصحابة غلت مراجلهم، وتحركت أرواحهم، فخرج من المسجد ما يقارب ثمانين شاباً، أعمارهم بين الثلاثين إلى العشرين، يقودهم حمزة وقد نصب ريش النصر على عمامته، ودخلوا بعد برهة في المسجد وانتظموا في آخر المسجد وقالوا: يا رسول الله! كيف تبقى بنا في المدينة؟ إنه لا يقاتل أحد في أرضه إلا ذل.
وقام أحد بني سالم بن عوف فقال: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى الأعداء لا نقاتلهم داخل المدينة، لا تحرمني دخول الجنة، فو الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر، وقال: بم تدخل الجنة؟ قال: باثنتين: -انظر إلى المؤهلات والشهادات العالية- أولاهما: أني لا أفر يوم الزحف، والثانية: أني أحب الله ورسوله، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله يصدقك}.
ثم وقف رجل آخر وقال: يا رسول الله! تسبى ذرارينا، وتؤخذ بهائمنا، ولما نقاتل! اخرج بنا إليهم يا رسول الله!
ورفع أنس بن النضر صوته من آخر المسجد وعليه السلاح، وقد سل سيفه وقال: يا رسول الله! أنا فاتني يوم بدر -أي أنه لم يحضر معركة بدراً - فلا تحرمني قتال الأعداء، فوالذي لا إله إلا هو لئن حضرت ليرين الله ما أصنع.
وتتابع كلام شباب الصحابة من يمين المسجد ويساره، وفي الأخير رأى صلى الله عليه وسلم أن الأغلبية الساحقة مع الذين يرون الخروج، فقال: نخرج إليهم إن شاء الله.
ثم ترك المنبر ودخل إلى بيته واغتسل ولبس الدرع عليه الصلاة والسلام، ثم خرج والسيف مسلول، سيف ذي الفقار -بالتخفيف- وعليه لامة الحرب قد غطت رأسه الشريف عليه الصلاة والسلام، وقال: الرأي أن نخرج.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
فلما رأوا ذلك رجعوا إلى أنفسهم وقالوا: لعلنا أكرهناك يا رسول الله! نرى أن تبقى في المدينة -ولكن الله يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]- فقال صلى الله عليه وسلم: {لا والله لنخرجن إليهم، ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يخلعها حتى يقضي الله أمره}.
وفي الأخير سكتوا، وأعلن صلى الله عليه وسلم أن المعركة سوف تقوم غداً، وأن من بايع الله فعليه أن يثبت على بيعة الله عز وجل؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] من أصدق من الله؟ من أوفى بعهده من الله؟ من الذي يثيب بالإخلاص إخلاصاً وبالصدق صدقاً إلا الله.