وأما مؤهلاته في عالم الأخلاق؛ فقد آتاه الله تعالى حسن الخلق، لولا بعض الأمر الذي سوف أبينه وهو أنه كان فيه حدّة لقوته، حتى يقول شاعر من اليمن وهو يمدح شيخ الإسلام ويرد على السبكي، يقول:
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه
يمدح ابن تيمية بأنه إذا سال ذهنه في الكتابة والتأليف يخشى أن تحترق ثيابه وملابسه من كثرة ذكائه.
فأكسبه هذا الذكاء حدة في الطبع، فكان يرد بعنف، لم يكن عنده إلا نسف وتدمير للجاهلية، ولا يعرف بناءً وتعميراً لها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25].
لذلك ألف رسالة التدمرية؛ وهي لأهل تدمر في الشام، لكنها {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] حتى إن أكثر الطلبة في أصول الدين لا يرسبون إلا في التدمرية.
والمقصود: أن ابن تيمية كان عنده من الصبر الشيء العجيب، فقد كان له خصوم من العلماء، يريدون قتله ولو قلت لأحدهم تمنَّ.
لقال: أتمنى أن يقتل السلطانُ ابن تيمية لنرتاح لماذا؟ لأنه اجتاح الدنيا، حتى أصبح التاريخ كله، يقول ابن كثير: ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية في السجن فقد نُسي التاريخ، ونسيت السلطان، ونُسي الدولة، وأصبح التاريخ كله ابن تيمية، وعليكم أن تقرءوا البداية والنهاية في الجزء الرابع عشر، يقول: ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية يجاهد النصيرية في جبل كسروان، ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية يجلد البطائحية الصوفية في السوق فإذا خرجت ضحى النهار وجدت ابن تيمية يجلد المخالفين في السوق، ويقيم الحدود، وتأتي يوم الجمعة وإذا به على المنبر يزلزل كأنه صاعقة، وتأتي بعد الفجر وإذا به يشرح التفسير، وتأتي في الليل وإذا به قائم يصلي لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتأتي وقت الصدقة وإذا به ينفق ويعطي، وهو متبسم يصدق فيه قول القائل:
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة القلوب
يقول ابن القيم: مات أحد أعداء ابن تيمية من العلماء، فأتيت أبشره؛ فاحمرَّ وجهه ودمعت عيناه وقال: تبشرني بموت مسلم! ثم قام فقمنا معه، حتى ذهب إلى بيت خصمه الذي كان يعاديه، والذي أفتى بقتله، قال: فدخلنا على أهله فسلم ابن تيمية عليهم وعزاهم ودعا لميتهم، وقال: أنا أبوكم بعد أبيكم، ما تحتاجون إليه فارفعوه إليَّ.
قال: فبكى أهل البيت تأثراً من هذا الموقف بالأمس أبوهم ألد الأعداء لـ ابن تيمية واليوم يقول ابن تيمية هذه الكلمات الطيبة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].