العمل بالعلم

المؤهل الثاني من مؤهلات ابن تيمية في النصيحة والدعوة إلى الله عزوجل: العمل بعلمه وتقواه لربه تبارك وتعالى وعلم ليس فيه عمل ولا خشية ولا ابتهال؛ إنما هو حفظ للمعلومات، وسلة مهملات يحفظها الإنسان في ذهنه ولا تنفعه أبداً، ولا تقربه من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وعمله بعلمه له جوانب:

الجانب الأول: الزهد

فقد كان منقطع النظير في الزهد، وللعلم فإن ابن تيمية رحمه الله لم يتزوج وترك الزواج ليس من الزهد، بل من الزهد أن تتزوج؛ لأن أزهد الناس عليه الصلاة والسلام وهو أكثر الناس نساءً، وعلي رضي الله عنه كان من أزهد الناس على الإطلاق وعنده أربع زوجات وتسع إماء فتركُ الزواج ليس من الزهد، لكن ابن تيمية لم يتركه تزهداً، وما تولى منصباً في حياته بالإجماع.

فقد جاء في كتاب العقود الدرية لـ ابن عبد الهادي، وكتاب الأعلام العلية للبزار: أن ابن تيمية كان له ثوب أبيض، وعمامة بيضاء من الخام العادية، وكان ربما ارتدى في البرد ثوبين، فقد كان ذات مرة يمر في سكة من سكك دمشق فمر به فقير يسأله، فبحث في جيوبه فلم يجد شيئاً من الدراهم والدنانير، فاختفى وراء سور ثم خلع ثوبه الأعلى وطواه وأعطاه المسكين.

ومرة يسأله مسكين فيبحث فلا يجد إلا ثوبه الذي عليه؛ فيأخذ العمامة فيقسمها نصفين ويلف رأسه بنصفها ويعطي المسكين النصف الآخر.

يقول صاحب الأعلام العلية: تأتيه الدنيا من ذهب وفضة وجوار وخيول إلى غير ذلك فينفقها من ساعتها، ولا يدخر درهماً واحداً.

أما في جانب الشجاعة؛ فحدث عنه ولا حرج وقف مع سلطان المغول لما دخل دمشق وحدثه بقوة وجرأة منقطعة النظير المغول (التتار) الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وما وقف أمامهم أحد من الناس، كانوا يموتون قبل أن يقتلوا من خوف التتار، وبلغت الذلة بالمسلمين في تلك الفترة أنه كان التتري يأتي فيقول للمسلم: انتظر هنا حتى آتي بالسكين فأذبحك بها؛ فيقف المسلم منتظراً، وفاء بالعهد، لأنه لا يريد أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ثلاثٌ من كنَّ فيه كان منافقاً -منها-: وإذا وعد أخلف} فمن أمانة هذا المسلم أن وقف ينتظر حتى يذهب التتري إلى البيت ويأتي بالسكين فيذبحه كما تذبح الشاة!!!

بل بلغ من الذلة في فترة من الفترات -ويرويها ابن كثير -: أنه كان يقول التتري للمسلم: ضع خدك على هذه الصفا حتى أذهب وآتي بالسكين فيضع خده على الصفا -ما شاء الله تبارك الله، الطاعة في موضع المعصية- فيأتي ذاك بالسكين ويذبحه بها.

ولكن ابن تيمية لم يرض بهذا المبدأ فقد دخل التتار دمشق في رمضان، وأرادوا اجتياحها ليلحقوها بـ بغداد، التي فعلوا فيها الأفاعيل؛ فقد أخذوا الكتب وقذفوا بها في نهر دجلة ونهر الفرات حتى تغير لون الماء والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ أن الكتب التي ضاعت في النهر هي كتب الفلسفة وكتب الخزعبلات، أما كتب الحديث والتفسير والفقه وكل ما يتعلق بدعوة الإسلام فقد حفظها الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وأما كتب الخزعبلات فأغرقت في النهر {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].

دخل التتار يوم الجمعة في رمضان، فخرج رحمه الله وجمع الناس وسل سيفه، وقال: أيها الناس! أفطروا هذا اليوم ثم تناول كوباً من الماء أمام الناس فأفطروا، ثم قال للسلطان: ينبغي عليك أن تنزل الجيش من الثكنات للقتال؛ فأنزل الجيش، وبدأت المعركة وشيخ الإسلام في المقدمة، وكان يقول: والله لننتصرن هذا اليوم.

فيقول له تلاميذه: قل إن شاء الله.

فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

وذكروا عنه: أنه كان إذا ضرب بالسيف تتكسر شظاياه على رءوس الناس وقد آتاه الله قوة في الجسم وبسطة؛ لأن الرجل زعيم يريد أن يقود أمة فهو مفكر وموجه ومنظر.

وكان يدخل على السلاطين فيكلمهم بجرأة حتى يرتعد منه السلطان مع أن السائد في مفهوم الناس أن الإنسان يرتعد إذا دخل على السلطان، لكن ابن تيمية يدخل على السلطان فيرتعد السلطان لا أن يرتعد ابن تيمية، حتى قال مرة لسلطان دمشق: ماذا تريدون غير تحكيم كتاب الله عزوجل؟

فقال له السلطان: إنني سمعت أنك تريد ملكي وملك آبائي.

فقال له ابن تيمية: أريد ملكك وملك آبائك؟! والله ما ملكك وملك آبائك يساوي عندي فلساً واحداً ثم خرج وتركه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015