يقول عليه الصلاة والسلام: {إن أمتي يدعون} أي: ينادون على رءوس الأشهاد تشريفاً وتعظيماً واحتراماً لهم {يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء} إن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الخصائص أكثر من مائة خصيصة أو ميزة تمتاز بها عن غيرها من الأمم.
الميزة الأولى: أن توبتنا في الاستغفار والندم والإقلاع, أي: أننا إذا عصينا الله وأردنا أن نتوب فما علينا إلا أن نندم ونستغفر ونتوب إلى الله عز وجل, أما من كان قبلنا فتوبتهم أن يقتلوا أنفسهم, كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل, ولذلك لما عبدوا العجل أوحى الله إلى موسى أن استدع منهم سبعين ليلاقوا الله عز وجل, فاستدعى من خيارهم سبعين, فلما كلمهم الله عز وجل, قال: عودوا وتوبوا وتوبتكم أن تقتلوا أنفسكم.
فحضر بنو إسرائيل كلهم جميعاً، وأخذوا السكاكين في أيديهم، وأنزل الله عليهم غماماً من السماء (سحابة) حتى غطت على رءوسهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فأصبحوا مثل الليل, فأخذ الإنسان يقتل أخاه وأباه وعمه وخاله وقريبه, وأخذت المرأة تقتل زوجها حتى تقاتلوا جميعاً, قال بعض المفسرين: فقتل منهم سبعون ألفاً هذه هي توبتهم.
أما نحن فنتوب ونستغفر الله مهما فعلنا, فمن يذنب في الإسلام فما عليه إلا أن يتوب ويستغفر, ومن يشرب الخمر, ومن يشرك, ومن يفعل الأفاعيل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
الميزة الثانية: أن أول أمة تحاسب يوم القيامة هي أمة الرسول صلى الله عليه وسلم, يقول صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} الآخرون، أي: آخر الأمم، لكن نأتي يوم القيامة سابقين بإذن الله عز وجل, نحاسب قبل الناس وندخل الجنة قبل الناس.
هذه امرأة أعرابية تمتدح جملها, تمشي في آخر القافلة، ولكن إذا وصلوا منازل القرى وصلت قبل الجمال، تقول:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
فيقول صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا} , فأول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول البوصيري في قصيدته التي لخبط فيها, والبوصيري صوفي أتى بشركيات وبدعيات، لكنه أتى بأبيات جيدة, فما مثله إلا مثل من يأتي بالدر فيجعله في المزبلة ثم يخلطه يقول:
بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
الميزة الثالثة: تفضيلهم بيوم الجمعة, فليس هناك أمة من الأمم لها يوم الجمعة إلا نحن والحمد لله, أضل الله أهل الكتابين عن يوم الجمعة, أرادوا يوم الجمعة فأضلهم الله عنه وأعماهم؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يريد لهم فلاحاً, فأما اليهود فأخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد.
ومن النكات العجيبة التي سمعنا بها أن بعض المسلمين في أمريكا لما دخلوا الإسلام أرادوا أن يتعاطفوا مع الشعب الأمريكي؛ لأنهم قريباً دخلوا في الإسلام، وليس عندهم فقه في الدين, قالوا: نريد أن تنقلوا لنا صلاة الجمعة إلى يوم الأحد! من أجل أن يكون العيد والعطلة واحداً؛ لأن الأمريكان كلهم يشتغلون في يومي الجمعة والسبت ولا يعطلون إلا يوم الأحد, فقالوا: ما رأي السماحة وأصحاب الفضيلة في نقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد، أفتونا مأجورين؟ هذا فقه عجيب!
يقولون: شريك بن قرة أحد العرب، وكانوا يذكرونه مثل ابن الجوزي وغيره, يقولون: صلّى الجمعة بأعراب في خراسان يوم الإثنين -والعهدة على الراوي- لكن لا ندري أهو صحيح أم لا؟!
فوقف شريك بن قرة على المنبر, يقول ابن الجوزي: وقف على المنبر وكان عامياً لا يعرف شيئاً لا من الكتاب ولا من السنة وهو من أجهل الناس, لكنه غلب أهل خراسان بالسيف، فلما ارتقى إلى المنبر، قال: صدق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
اعملي أم خالد رب ساع لقاعد
.
فهذا بعض الفقه العصري يصل إلى هذه المرتبة.
الميزة الرابعة: ومن الميز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: الوسطية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي: عدولاً، وهو الراجح عند أهل العلم؛ لأن بعض الناس يقول: وسط أي: أفضل؛ لكن ليس هذا هو الوسط, والوسط: هم العدول أو الخيار {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي: أعدلهم, وقيل: أخيرهم, وقيل: وسطاً، أي: أنكم متوسطون، وذهب إلى هذا سيد قطب , وأنا أدعوكم إلى مراجعة هذه الآية في ظلال القرآن، فقد أتى بتفسير عجيب ما سمع الناس بمثله, يقول: نحن أمة وسط في الأفكار والشعور, لا نميل مع أهل الخيال بخيالهم، ولا نميل مع أهل الجمود في جمودهم, ونحن أمة وسط في العبادة، لا نميل مع أهل الشهوات كاليهود فنترك العبادة، ولا نميل مع أهل الصوامع والرهبنة كالنصارى فتقتلنا العبادة, ونحن أمة وسط في الجمال والروعة والفن, وفننا وروعتنا الواقعي يوافق الحس والعقل, ولا نميل مع أهل الخيال الجامح الذين يرسمون الخيالات ويظنون أنها أمجادهم, لأن الرسامين في إيطاليا وأسبانيا وغيرها هم عندهم كأنهم ملائكة نزلوا من السماء, أهل رسم وأهل فن؛ لأنه ليس لهم رسالة في الحياة.
قال: ونحن وسط في العقيدة؛ فنعظم الله عز وجل كل التعظيم, ونقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ونحترمه, لكن لا نقدسه صلى الله عليه وسلم، ولا نرتقي بمكانته مرتبة النبوة كما فعل النصارى، ولا نذمه صلى الله عليه وسلم، ولا نطرحه، ولا نقتل أنبياءنا كما فعل اليهود.
فالوسط هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.