أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء المحمود وترك المذموم، فهو قدوتنا في كل عمل، فمن لا يأخذ قوله وهديه وحاله صلى الله عليه وسلم فقد ذل، فيؤخذ القول من قوله صلى الله عليه وسلم، ويقتدى به صلى الله عليه وسلم بالأفعال والأحوال، ولذلك يقول أبو سعيد رضي الله عنه في الصحيحين: {كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها}.
ولا يحمل ذلك بعض الناس على أن يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يرى منكراً أو حقاً لله فيستحي ويحجم، لا.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى حدود الله تنتهك، غضب غضباً لا يقوم له أحد عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن حياءه كان حياء عبادة، وحياء تكليف من الله عز وجل, وكان من حيائه إنه ما كان يمد بصره إلى الناس؛ لأنهم يجلسون أمامه صلى الله عليه وسلم في الصلوات, بل كان ينكس رأسه صلى الله عليه وسلم وربما نظر إلى بعضهم.
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: {كنا نصلي على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم عله أن ينظر إلينا، فيبتسم إلينا ونبتسم إليه}.
ويقول أنس: {كان صلى الله عليه وسلم يبقى في بيته إلى قرب إقامة صلاة العشاء} أو كما قال.
فكان لا يخرج صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإقامة، فإذا اجتمع الناس خرج عليه أفضل الصلاة والسلام من الجهة اليمنى؛ لأن بيت عائشة رضي الله عنها كان في الروضة من الجهة اليمنى للمصلي إذا استقبل الناس، قال أنس: {وكان في علية القوم، وفي الصف الأول أبو بكر وعمر، فينظر إليهم صلى الله عليه وسلم، وينظرون إليه، هو مقبل، فيبتسم إليهم، ويبتسمون إليه، ثم تقام الصلاة}.
كان من هديه صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان يبدي للإنسان نظره إذا أخطأ, وما كان يقوم على المنبر، ويقول: أنت يا فلان فيشهره أمام الناس، أو يعلن توبيخه على الناس، لا.
بل كان يقول صلى الله عليه وسلم: {ما بال أناس يفعلون كذا وكذا} فيعرف المخطئ، ويعرف العاصي، فيعود بإذن الله ويتوب إلى الله عز وجل، هذا هديه صلى الله عليه وسلم.
والتشهير بالناس وبأخطائهم مذهب خاطئ، وغلط في المنهج والمبدأ، لا يقبله الإسلام، ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث سلمان أنه قال: {إن الله حيي يحب الحياء} وفي لفظ: {ستير}.
وقد سألني بعض الإخوة: كيف تورد مثل هذه الألفاظ في صفات الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله نظيف يحب النظافة، وجميل يحب الجمال، وستير يحب الستر} وهل الحديث في ذلك ثابت؟
فنقول: هذه الألفاظ أطلقت من الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث في الترمذي.
ويرى ابن تيمية أن هذه الأسماء واردة منه صلى الله عليه وسلم، يقول: لكننا نتوقف فيها، فلا نطلقها حتى نتأكد من أسانيدها هل هي صحيحة أم لا؟ مع العلم أن في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} قال ابن حزم الظاهري:"أحصيتُ الأسماء الحسنى في الكتاب والسنة، فوجدتها ستة وستين، لا زيادة" فقال ابن تيمية: وجدت أكثر من الستة والستين.
والواجب في الأسماء والصفات أن نقولها كما قالها صلى الله عليه وسلم، ونقف على ذلك؛ لأن الأسماء توقيفية، وليس لنا أن نزيد في أسماء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, كبعض الناس يسمي ابنه عبد الموجود, وعبد اليقظان، فهذه ليست من الصفات التي ورد بها التكليف والتشريع والاعتقاد.
وإنما ذكرت هذه المسألة عرضاً واستطراداً، والشاهد عند قولنا: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب الستر، ولا يحب التشهير بالناس، حتى إنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يكره من الإنسان العاصي أن يجاهر بالمعصية، يعصي بالليل، ثم يخرج بالنهار، فيخبر الناس أنه عصى، وأنه ارتكب، وأنه فعل وفعل، فهذا لا يغفر له {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} أي الذين يجاهرون بالخطأ، ولذلك من استصلاح القلوب: ألا يشهر المسلم بالعاصي، بل يأخذه على انفراد وينصحه؛ لأنهم يقولون: إن الدعوة: إما نصيحة، وإما فضيحة.
وقد سبق لنا أن ذكرنا كلام الشافعي للإمام أحمد في رسالته له، قال:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة