فأما الآيات الكونية فقد عرضها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا في مخلوقاته ودعانا إلى التأمل والتفكر فيها، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] أي نظرة اعتبار وتدبر لتدلكم على الخالق، فإن المصنوع يدل على الصانع، والأثر يدل على السائر، وأثر الرجل في الأرض يدل على أنه سائر في هذه الأرض، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] لماذا؟ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] سنريهم آياتنا التي تدل على الوحدانية حتى يتبين لهم أن هذا الدين حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والرسالة الخالدة حق، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يلوم البشرية كيف لا يتدبرون هذه الآيات ويتأملونها: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] يقول: كم من آية يراها الإنسان ويعيشها ثم يمر عنها وهو معرض!
ولذلك كان التأمل والتفكر والتدبر من أكبر الطرق الموصلة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأول كلمة نزلت في القرآن كلمة اقرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب لكن أين يقرأ؟ قال أهل العلم: يقرأ في كتاب الله المفتوح؛ في الكون والجبال السامقة والتلال الشاهقة والأنهار والأشجار وفي السماء بنجومها وبشمسها وبقمرها وفي الأرض ففي هذا يقرأ صلى الله عليه وسلم، ويقرأ كل متأمل.
ولذلك كثير ممن ادعى الكفر أبت قلوبهم إلا أن تعترف أن هناك مدبراً.
يقول كريسي موريسون عالم أمريكي في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: عجيب هذه النحلة كيف تقطع آلاف الأميال ثم تعود إلى خليتها، لا بد أن هناك وازعاً يزعها حتى تعود إلى خليتها، ولكن كتابنا يجيب عليه فيقول: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] فهو تدبير وتصريف وقدرة إلهية، فالآيات الكونية أكبر دليل على عظمة الله وألوهيته وعلى أن هناك مصرفاً ومدبراً.
وفي كل شيءٌ له آية تدل على أنه الواحد
أجمعت الأمم سواء نطقاً أو اعتقاداً على وجود الله عز وجل، حتى الملاحدة الذين نفوا وجود الله بألسنتهم فقد أثبتوه بمعتقداتهم في قلوبهم، ورأس الملاحدة الذين أنكروا وجود الله هو فرعون طاغية مصر، وقد أثبت موسى أنه يقر بوجود الله كما قال الله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] فيقول له: أنت تعلم في قرارة نفسك أن هناك إلهاً؛ لأن فرعون أنكر وجود الإله وادعى الربوبية، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ملك قطعة من الأرض صغيرة، وادعى أنه إله وأنه معبود من دون الله، فرده موسى إلى نفسه وقال: أنت تدري في قرارة نفسك ولو لم تنطق بلسانك أن هناك إلهاً.
ولذلك كان المشركون في عهده صلى الله عليه وسلم لا ينكرون وجود الصانع ولا وجود الرب ولم يختلفوا في ذلك، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: إذا اشتدت بهم الأزمات اعترفوا بالإله الحق، فهذا لا خلاف فيه، وهم معترفون من قبل أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك.
ولذلك كان المشركون في مكة يطوفون بالبيت العتيق ويلبون ويحجون ويدعون الله بدعاء يشركون فيه مع الله تعالى فيقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك؛ فهم يعترفون بوجود الله، ولكن يجعلون مع الله نداً وشريكاً، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليأمرهم بإفراد الله في العبودية وليدعوهم إلى توحيد الألوهية أن لا إله مستحق للعبودية إلا الله.
فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وجد الناس اتخذوا آلهة مع الله عز وجل، فمنهم من اتخذ حجراً يعبده، والحجر لا ينفع ولا يضر ولا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت، لكن لضرورة قلوبهم لإله معبود اتخذوا هذا، وهذه هي الضرورة التي أشرنا إليها سابقاً فاتخذوا الحجر، وبعضهم كان يجمع تمراً فيعبده ويسجد له مع علمهم أن هناك إله، فإذا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَ تعبدون هذه؟ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي يتوسطون لنا في طلباتنا ونتوسل بهم إلى الله في رفع حوائجنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن الأمم -ولو لم تعبد الله عز وجل- لا بد أن تتخذ إلهاً.
فالهندوس في الهند يعبدون البقر، لماذا؟ لأن عندهم فراغاً روحياً، فلما لم يجدوا الإيمان بالله عز وجل الذي يكمن في هذه الروح فغطوا جانب هذا الفراغ بعبادة البقر، والمانوية فرقة ضالة تعبد الليل والنهار، إذا جاء النهار عبدته وإذا جاء الليل عبدته.
والعرب في جاهليتهم أخذوا الحجارة والأوثان والأخشاب والصخور فعبدوها، يذبحون لها ويتقربون إليها بزعمهم أنها توصلهم إلى الله، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال: هذا خطأ؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلقكم ورزقكم ويميتكم ويحييكم ويبعثكم إليه، وهو لا يريد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتوسط إليه في العبادة أحد، وإن كان في تبليغ الدين منه إلينا لا بد من واسطة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أما في العبادة فلا واسطة بل لك أن تصلي له في أي مكان، وتدعوه في أي زمان وتتوجه إليه وراء البحار والمحيطات، فهو يراك ويسمعك ويقبل دعاءك.
مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يقرر عقيدة التوحيد التي تنص على إفراد الله عز وجل بالألوهية، أي بالعبادة له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والدعاء، أما الربوبية فإن المشركين معترفون بأن هناك رباً خلقهم ورزقهم ورباهم ويحييهم ويميتهم، لكنهم اختلفوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في توحيد الألوهية، فقالوا: كيف نعبد إلهاً واحداً؟! {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] عجيب أن يكون هناك إله واحد يقوم بشأن الكون كله، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة عشر سنة يدعوهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فلا يُصرف شيء من العبادة لغيره عز وجل.