أحد الخلفاء المسلمين لما دعا بالجهاد في حدود الروم، كان ابن المبارك المحدث الزاهد العابد يفتي في الحرم، فسمع داعي الجهاد، فخرج من الحرم، وأخذ بغلته وركبها، ولبس السيف والدرع، قال له أهل مكة: ابق معنا يا بن المبارك قال: والله لا أبقى
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وذهب يقاتل، يقول عنه تلاميذه: كان من أشجع الناس، قتل في اليوم الأول سبعة فرسان، وأتته في أثناء المعركة رسالة من الفضيل بن عياض من الحرم، يقول فيها: يا بن المبارك تركت الحرم والعلم والفتيا، فكتب ابن المبارك رسالة إليه يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
فلما أتت الرسالة للفضيل بكى وبلها بالدموع رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقول أحدهم:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا أوطانهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
ووافت أحدهم ميتته قتيلاً وشهيداً في سبيل الله في قندهار، فلما حضرته سكرات الموت، قال: بلغوا بناتي السلام وأنا في قندهار، ثم قال:
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبر
يقول: أين أنا وأين هم؟ هو في قندهار، لكن في سبيل الله.
خرج سعيد بن عثمان بن عفان غازياً في سبيل الله، وكان مالك بن الريب قاطع طريق في حدود خراسان يسرق القوافل، لا تمر قافلة إلا سرقها، وكان سفاكاً للدماء، فمر به سعيد بن عثمان رضي الله عنه وأرضاه وناداه، فقال: من أنت؟ قال: مالك بن الريب فقال: وما عملك؟ قال: الله أدرى بعملي، قال: ألا تتوب؟ قال: كيف؟ قال: خرجنا نحن في سبيل الله، قال: ماذا تريدون؟ قال: نبيع أنفسنا إلى الله، قال: سبحان الله! أنا آكل أموال الناس سرقة، وأنتم تبيعون أنفسكم إلى الله، اللهم إني أشهدك أني تبت إليك، فتاب وأناب، وذهب معهم، وقاتل معهم الكفار، وبعد المعركة وهو راجع لدغته حية، فأتوا به وهو في سكرات الموت، فقال قصيدة من أعجب ما قيل في القصائد العربية يرثي نفسه، يقول فيها:
وأشقر خنذيذ يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وداريا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
إلى آخر ما قال، وهي أبيات تقطع القلب تقارب الثلاثين بيتاً.