أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون، فقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] يقول ابن كثير قال ابن عباس: أي: منياه بالملك والشباب والصحة، قل يا موسى لفرعون إذا أسلمت متعك الله بشبابك وبملكك وبصحتك.
بالله نحن ونحن بسطاء، والواحد منا ليس له ذاك الأثر في المجتمع، لو أتانا رجل ولو كان أعلم أهل الدنيا وقال: يا فلان قاتلك الله لِمَ لا تستقيم على أمر الله؟! دمر الله مستقبلك لِمَ لا تتوب إلى الله؟! والله ليغضبن أحدنا وليخرجن إليه مقاتلاً.
لكن ما رأيك بملك من الناس أو زعيم من الزعماء يرى أن الدنيا يجب أن تصغي له وأن تسير في مساره، وأن تسجد له من دون الله، فأتى إليه موسى وقال قولاً ليناً.
قال أبو أيوب الأنصاري معنى قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] أي: نادياه بالكنية قولاً يا أبا مرة وكان اسمه أبو مرة مرر الله وجهه في النار، فكان يقول له والمترجم بينهما هارون: يا أبا مرة إذا أسلمت أبقى الله لك ملكك، يا أبا مرة يا أبا مرة والكنية فيها لطافة.
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه فالسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
ولذلك قد يتهم بعض الناس بعض الدعاة بسبب التنازل في بعض الكلمات ولها مقاصد، وقدوتهم في ذلك موسى ومحمد على الأنبياء جميعاً صلاة الله وسلامه، والقلوب لا تنقاد إلا بالحب.
دخل رجل من الوَّعاظ على هارون الرشيد قال: يا هارون! قال: نعم، قال: استمع لي لأقولن لك اليوم كلاماً شديداً، قال: والله لا أسمع، قال: ولم؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] كيف يدخل إلى القلوب بكلمة قاسية؟ هذا لا يكون، كان أسلوبه صلى الله عليه وسلم الدخول إلى قلوب الناس باللين، نحن نتحدى وغيرنا يتحدى أن يوجد في كتب السنة أو كتب السيرة كلمة بذيئة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم.
هل سمعتم أنه قال لكافر: يا حمار أو يا منتن أو يا قبيح أو كذا؟ لا، كان عفيفاً قريباً من القلوب حتى أسر الناس.
وفي السيرة لابن هشام بسند جيد أن أبا سفيان لما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم في الحرم بكى أبو سفيان، وقال: لا إله إلا الله ما أرحمك، ولا إله إلا الله ما أبرك، ولا إله إلا الله ما أوصلك، ولا إله إلا الله ما أكرمك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه ورد كما رد يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] عفا عنهم ولذلك كسب قبائل العرب.
يقول الأستاذ علي الطنطاوي: نحن العرب مثل قرون الثوم إذا كشفت قرناً خرجت ثلاثة قرون!! وإذا كشفت القرن الثاني خرج ثلاثة، كلهم زعماء وكلهم أهل سيوف ما جمعهم قبل الإسلام ملك ولا زعيم ولا دولة ولا حضارة ولا ثقافة ولا فنون ولا هيئة، اليهود والنصارى واليونان والصين والرومان وفارس مجتمعون إلا العرب.
الواحد منهم أخوه من أبيه وأمه يذبحه عند مربط الشاة على عود من الحطب، الواحد منهم يجزر أخته بالسيف كما يجزر الدجاجة.
أمة همجية لولا أن الإسلام نظمها وقادها إلى الله، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] يوم كانت هذه الأمة تعلن ولاءها واقفة لله عز وجل نصرها وجمع كلمتها، لكنها لما أعرضت عن منهج الله؛ هزمت وتقهقرت.
كما يقول أحدهم متحدثاً عن العرب:
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العرب
أبلت سياط حزيران ظهورهم فقبلوها وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
إلى أن يقول:
لكن أُبشِّر هذا الكون أجمعه بصحوة لم تدع في صفنا جربا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
إلى أن يقول فيها:
لا بائع الرخص في سوق النخاسة أو من همه في الورى أن يكسب اللعبا
إنما هذه وقفة، وللحديث كلام آخر، وإنما أتكلم في موقفه صلى الله عليه وسلم يوم قاد هذه الأمة باللين والحكمة.