اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآياتك.
من استنصرك نصرته، ومن حاربك خذلته، ومن عصاك أدبته، ومن تقرب إليك بالطاعات أحببته وقربته، أنت رب الطيبين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من أرسلته شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا ً.
أمَّا بَعْد:
أيها الناس: فلنستمع إلى القرآن وهو يواصل معنا عرض قصة يوسف في إبداع عجيب وفي تصوير مشرق رائع، بعد أن تركناه في الجب غريباً وحيداً ولكن معه الله يؤنسه، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قال عن نفسه: {أنا جليس من ذكرني} فمن ذكره فهو معه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولذلك يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]
هل تذكرونا مثل ذكرانا لكم رُبَّ ذكرى قربت من نزحا
بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر غريباً يحتمي بحماكا
إني ضعيف أستعين على قوى جهلي ومعصيتي ببعض قواكا
يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:19 - 24].
ترك في البئر وحيداً، وعاد إخوته يبكون بكاء كاذباً، ويعرضون دماً كذباً على قميصه، تركوه وحيداً ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىمعه، ولذلك قال أهل العلم: لما أنزل يوسف عليه السلام في الجب أخذ يذكر الله، ويكبر ويهلل، قال الله: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف:19] هو في صحراء منقطع، في بيداء ليس معه أنيس إلا الذئب، وحيداً في الفلاة لكن الله أتى بهذه القافلة، وبهذا الموكب العظيم لينقذ يوسف عليه السلام من الجب أتت القافلة من الشام تريد فلسطين فضلت طريقها، وسوف تعترض على طريقها مصر فذهبت إلى تلكم الصحراء لحكمة أرادها الله، وعناية الله تتابع من يريد الله، ورعاية الله تذهب مع عباده أنّى حلوا وأنّى ارتحلوا، يقول ابن الجوزي في صفة الصفوة: وهو يتحدث عن رعاية الله وعنايته، يقول أحد الصالحين: رأيت عصفوراً كل يوم يأخذ من المزبلة لحماً وخبزاً ويذهب به ويضعه في نخلة، وعهدي بالعصفور أنه لا يعشعش في النخل فصعدت؛ لأرى ماذا هناك، فرأيت حية عمياء كلما أتى العصفور بهذا اللحم فتحت فاها وأكلت.
إن الذي سخر العصفور للحية العمياء هو الذي سخر تلكم القافلة ليوسف عليه السلام لتأخذه من البئر، وأدلى واردهم دلوه في البئر، والقرآن عجيب في العرض، رائع في الأداء، بديع في التصوير، لم يقل: أدلى دلوه، ثم تعلق يوسف بالدلو، ثم سحب الوارد الدلو، فقال له: من أنت؟ ثم ذهب به إلى أصحابه، بل جاء بالفاء التعقيبية؛ لأن عنصر المفاجأة في الآية يقتضي ذلك {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} [يوسف:19] أدلى دلوه فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو، وسحب الدلو فرأى غلاماً صبيحاً أوتي شطر الحسن، فقال لأصحابه: (يا بشرى)! وقرأ أهل الشام: (يا بشرايا هذا غلام) -أي: خادم وعبد أبيعه لي- ثم يقول عز من قائل: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف:19] وقيل: أخفوه عن الناس لأنهم ما أخبروا الناس به خوفاً أن يجدوا أباه أو إخوانه، وما علموا أن إخوانه هم الذين تركوه، وهم الذين طرحوه وهجروه وأبعدوه {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19].