الفائدة الثامنة عشرة: عودة حرمة مكة كما كانت عليه:
فإنه لما خطب صلى الله عليه وسلم الجموع يوم مكة، خاف أن يُتَوَهَّم أنه يجوز استحلال مكة دائماً، والدخول بالجيوش والمقاتلة، فقال: {يا أيها الناس! إنما أُحِلَّت لي مكة ساعة من نهار، ثم عادت حُرمتُها كما كانت يوم خلق الله السموات والأرض، لا يُعْضَدُ شوكُها، ولا يُخْتَلَى خلاها، ولا ينفر صيدُها، فمن فعل ذلك - في بعض الروايات - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.
ولذلك في صحيح البخاري: عن أبي شريح قال: لما حزَّب عمرو بن سعيد الأشدق -وهو أموي، وهو أول مَن رَعَفَ على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام حيث يقول صلى الله عليه وسلم في أثر فيه ضعف: {كأني ببني أمية يتَنازَون عن منبري كما تتَنازَى القردة، يَرْعُفُون} أي: يَرْعُفُون بالدم، فأتى عمرو بن سعيد، وكان جباراً بائساً ظلوماً غشوماً، دخل المدينة وخطب على المنبر، ثم سَعَل، ثم رَعَفَ، نزل الدم من أنفه، فعرف الصحابة أن هذا منهم.
فأتى عمرو بن سعيد هذا فحزَّب الجيوش، يريد بها مهاجمة ابن الزبير في مكة، فأتى أحد الصحابة وهو أبو شريح، فقال: يا أيها الأمير! اسمع مني كلاماً، قال: ما هو؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الفتح، سمعته أذناي، ورأته عيناي، ووعاه قلبي، يقول: {إن مكة أُحِلَّت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتُها كما كانت يوم خلق الله السماوات والأرض، لا يُخْتَلَى خلاها، ولا يُعْضَدُ شوكُها، ولا يُنَفَّر صيدُها، فَبَسَرَ الأميرُ في وجهه، وكََلَحَ، وقال: نعم أعلم بهذا منك، يا أبا شريح! والله ليس بأعلم ولا أدرى، لكن هكذ ثم قال: الحرم لا يُعِيْدُ فارَّاً بِخَرِبَة} هذه رواية، بمعنى أنه لا يعيد هذا.
فليُعْلَم هذا.