الاستدراج

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] فيأتيهم الله من حيث لا يتصورون, فيأخذون الاحتياطات ويحاولون الاستقرار, لكن يأخذهم الله من مكانٍ ما ظنوا أن الله سيأخذهم منه, يقول سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] فإذا خططوا لشيء في الليل فتخطيط الله أعظم, والبرم عند العرب: لفُّ الخيط حتى يصبح شديداً, يقول الله تعالى: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] يقول: إن كان عندهم مخططات في الكواليس والسراديب تحت الأرض؛ فأخبرهم: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79].

ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9] ثم يقول: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] أي: يخطب في حماية الإسلام بينما هو يقتل المسلمين, ويشردهم, ويهدم مساجدهم, ويمزق مصاحفهم, ويقول: إنما نحن مستهزءون بهذه الأجيال، قال الله عز وجل: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15 - 16].

وهذا هو القرآن يعرض نفسه على البشر، يقول سيد قطب: "بدأت سورة محمد بهجوم أدبي على أعداء الله" مطلع السورة مثل السيف، فيقول الله في أول السورة بدون مقدمات: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فهذه أول جائزة وأول أعطية: أن الله أضل أعمالهم.

والثانية: قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2] لماذا؟

قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد:3] اتبعوا استالين ولينين وفرعون وإبليس وميشيل عفلق {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3].

وبعد آيات يقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فهو ضائع مثل الحمار الضائع ليس له هوية, يصلح أن يكون مرة بعثياً، ومرة ناصرياًً، ومرة اشتراكياً، ومرة شيوعياً، فتدخل به كل مدخل, ويشتغل على كل موجة, مثل الماس يعطيك مع الشمس كل صورة, أما المؤمن فمبادئه ثابتة في الليل والنهار, في السلم والحرب، مسلم يحمل لا إله إلا الله في دمه، وعروقه ولحمه وشحمه وعصبه، لا يساوم على عقيدته ولو دفعت له الأرض بما فيها, فهذا هو الاستدراج.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015