بيان معنى قوله: (إنك تقضي ولا يقضى عليك)

قوله: {إنك تقضي ولا يقضى عليك} يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] اسمع اللطافه، يقول: إذا حكم سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا معقب لحكمه، لأن أهل الدول والنظم، يبقى التوقيع الأخير لأكبر مركز في الدولة، فإذا وقع عليه لا يجوز لأحد أن يوقع بعده، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] يقول: فإذا وقع على قضية وأنهاها، فلا يأتي أحد من البشر سواء من الملوك أو الجبابرة، ولا من الأكاسرة والقياصرة، يوقع عليه بعده، وإن وقع عليه فالنار مثواه: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].

ولذلك سمى ابن القيم كتابه: إعلام الموقعين، ومعناها: الموقعين عن رب العالمين، فلا يوقع عن الله في الأرض إلا العلماء: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] فهم يوقعون عن الله الفتاوى، ولذلك فتيا أهل العلم توقيع عن الله.

وقوله: {إنك تقضي ولا يقضى عليك} فلا يقضي على الله أحد: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] والناس لا يدرون! تجد الإنسان يسرح ويمرح وقضى الله عليه أن يموت بعد لحظة! تجده في سلطان وقضى الله عليه أن يُخلع بعد وقت، فلا يدري.

قال ابن القيم عند قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يُغني فقيراً ويجبر كسيراً، ويعافي مبتلى، ويشافي مريضاً، ويرد غائباً، ويميت حياً، ويخلع ويعزل هذا، ويولي ويملك هذا، ويغني هذا ويفقر هذا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].

فالصحف تصعد وتنزل، والملائكة تعمل، وسفراء الوحي واقفة، والسماء في أمر عجيب، والأرض في نبأ غريب، ومع ذلك لا يلهيه شأن عن شأن.

أنا أمام الله فرد واحد، يدري بحياتي ومستقبلي ومعاشي من دقيقة وجليلة، وأنت وكل رجل منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة، ثم يخلقهم ويرزقهم ويعافيهم ويبتليهم ويحاسبهم، بل أعظم من ذلك:

{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015