وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وعافني في من عافيت) فإن هناك نعيماً في الدنيا ونعيماً في الآخرة، فنعيم الدنيا عافية، ونعيم الآخرة عفو، فلا يتم نعيم الآخرة إلا أن يعفو الله عن ذنوبك، ولا يتم نعيم الدنيا إلا بأن يعافيك الله في جسدك.
قالوا لأحد الأطباء: ما هي السعادة؟ قال: أن تعافى، وقالوا لأحد الحكماء: ما هي السعادة؟ قال: عافية في الدنيا وعفو في الآخرة، وعند أحمد في المسند أن العباس قال: {يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو الله به، قال: قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية} وقال له مرة: {يا عم! سل الله العفو والعافية} فما أوتي العبد بعد العفو خيراً من العافية في الأبدان، فالمريض لا قرار له، ولا صحة ولا عافية له، ملكوا الدنانير والقصور فمرضوا فما وجدوا لها حلاوة، فالمريض لا نعيم له.
كان الجاحظ الكاتب الشهير، والبلاغي النحرير، المعتزلي مريضاً وعنده الدنانير التي أعطاه الخلفاء، فيدخل عليه الزوار بأكياس الذهب والفضة، ويقولون: خذ من الخليفة، فيتقلب ويبكي ويقول:
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت في عصر الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب جديد كالبلي من الثياب
يقول: ماذا أريد بها وأنا في هذا المستوى وفي هذا المرض، وكان أحد أدباء خراسان، يطلب المال في العشرين والثلاثين والأربعين من عمره، فما وجد درهماً واحداً، وكان فقيراً، فلما بلغ الثمانين استدعاه الخليفة وولاه الكتابة وأعطاه راتباً، وجارية له، فبقي يبكي في الليل فقال له أبناؤه: مالك تبكي؟ فنظم قصيدة قال:
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
تطوف بي من بنات الترك أغزلة مثل الضباء على كثبان يبرينا
يحيين بالحب ميتاً لا حراك به وهن يقتلن بالتسعين تسعينا
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا