{بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3]: ذكر الله في أول هذه السورة ثلاث صفات لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
الأولى: رب.
الثانية: ملِك.
الثالثة: إله.
{بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]: فأما (رب): فهو توحيد الربوبية الذي أقر به الناس جميعاً، وإن أنكره بعضهم في الظاهر؛ فإن فرعون أنكر الربوبية في الظاهر، فهو يقول لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] بينما بَكَّتَه موسى عليه الصلاة والسلام وكذَّبه وعنَّفه، وقال: يا عدو الله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لم ينكر أحد من الناس الصانع -أي: الخالق الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا فرعون، فقد أنكره في الظاهر وأقر به في الباطن.
وإلاَّ فالخليقة كلها كافرها ومؤمنها، ضالها ومهتديها؛ يشهدون ويقرون أن هناك رباً، ولكن ما خالف بعض أهل الكفر وأهل الزيغ والإلحاد إلا في مسألة الإله، فخالفوا في توحيد الألوهية، فأتى الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى توحيد الألوهية، الذي ذكره الله في هذه السورة: (رب - ملِك - إله).
والعبد في كل يوم لا بد أن يلتجئ إلى هذا الرب والملِك والإله.
فالرب: الذي يربي عباده بالنعم، وهو المربوب، وهو المصرف المدبر الخالق الرازق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
والملك: هو الذي يستحق الملك.
قال القرطبي: وإنما ذكر الله عز وجل الربوبية لجميع الخلق لأمرين:
الأول: لأن الناس معَظمون، فأعْلَمَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا معَظَّم إلا هو تبارك وتعالى.
الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعْلَمَ بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه هو وحده الذي يُعِيذ، ولا يعيذ غيره.
وهذا في مسألة (رب).
{مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2]: وأما (ملِك): فإنه انفرد بالملك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولو أن في الناس ملوكاً، ولكن المُلك حقيقة له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولذلك أثنى على نفسه فقال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
والله عز وجل سمى نفسه يوم القيامة: ملكاً؛ لأنه: {يقبض السماوات بيمينه، والأرضين بشماله} هكذا في لفظ مسلم.
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا اللفظ، هل يطلق عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالشمال؟ فأقره سماحة الشيخ، وقال: يقره أهل السنة، وأما حديث: {كلتا يدي الله يمين} فهو من باب التكريم والتبريك، وإلاَّ فـ أهل السنة يقرون لفظ الشمال، كما في صحيح مسلم.
فإذا قبض الله السماوات والأرض نادى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ فلا يجيبه ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، فيجيب نفسه بنفسه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
فهو ملِك الناس.
{إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] وأما (إله): فهو المستحق للألوهية والعبودية سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقد أُرسل الرسل بذلك، وخاتمهم رسولنا عليه الصلاة والسلام فقد أتى بهذا التوحيد، وهو الذي أنكره المشركون، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم: {قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا} وكل نبي قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فالمشركون عبدوا مع الله غيره، وسألوا ودعوا مع الله غيره, فضلوا ضلالاً مبيناً.
وعند أبي داود في السنن: أن حصين بن عبيد الخزاعي وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام: {يا حصين! كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فَمَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض، واعبد الذي في السماء}.
وعند أحمد في المسند وأبي داود أيضاً: عن أبي جري الهجيمي، قال: {وفدتُ على الرسول عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! إِلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى أن يُعبَد اللهُ لا إله إلا هو، ثم قال: الذي إذا أصابتك سنة فدعوتَه كشفها عنك -أي: قحط وجدب- والذي إذا ضلت ناقتك في الصحراء فدعوتَه ردَّها عليك} فانظر كيف خاطب هذا الأعرابي بمنطوقه ومفهومه، فإنه يفهم القطر في الصحراء، ويفهم الضالة إذا ضلت، فخاطبه بشيئين عليه الصلاة والسلام.
فالله عز وجل هو الذي يستحق الألوهية، وإنما يَضِلُّ العبدُ يوم يدعو إلهاًَ غير الله عز وجل.
وقد وقع الناس في كثير من الشركيات، كشرك المحبة، والرجاء، والخوف، وهذه ليست بظاهرة، بل أجزِمُ جزماً أكيداً أنه حتى من يحمل الشهادات العالية، وربما الشهادات الشرعية منها، يقع في شيء من هذا الشركيات.
وقلتُ أكثر من مرة، وقال غيري ممن هو أفضل: إن كثيراً من الناس لا يعبدون النجم أو الحجر أو الشجر.
لكن منهم من يشرك شرك الخوف.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من نواقض (لا إله إلا الله): شرك الخوف، وهو الذي يقع فيه الناس، ومعناه: أنك تخاف من البشر أكثر من خوفك من رب البشر.
وتعتقد أنت في نفسك، ولو أنك تصلي وتصوم وتعبد أن من الناس من يمكن أن يقدم أجلك ساعة، أو ينهي حياتك، أو يقطع رزقك أو يضايقك، دون أن يقدِّر الله ذلك، أو يستطيع أن يضرك دون أن يكتب الله ذلك.
وهذا شرك منك في لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند الترمذي وأحمد أنه قال: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفت الصحف}.
فهل اعتقدنا هذا؟ وهل عشناه؟ وهل خلَّصنا أنفسنا من هذه الشركيات؛ شرك الخوف، والرجاء، والمحبة؛ أن ترجو غير الله أكثر مما ترجو الله، أو تحب غير الله أكثر من حبك الله؟