اجتمع الصحابة في غزوة من الغزوات، ولم يكن معهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فجلس خالد بن الوليد، وجلس ابن عوف وبلال وأبو ذر، وكان أبو ذر فيه حدة، لا يصبر ويندفع بسرعة، فتكلم أبو ذر بكلمة اقتراح، يقول: أنا أقترح في الجيش أن يفعل به كذا وكذا، فقال بلال: لا.
خطأ هذا الاقتراح؟ فقال: حتى أنت يا ابن السوداء تخطئني -لا إله إلا الله- أين أنت في مجتمع غفار؟ أليس مجتمع القرآن والسنة هذا؟ قام بلال مدهوشاً مرعوباً غضباناً أسفاً وقال: والله لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أكبر هيئة، ومن هو بلال؟ روح الإسلام، ومنادي السماء.
فاستفاقت على أذان جديد ملء آذانها أذان بلال
بلال الصوت الحبيب إلى القلوب بلال الذي سُحب على الرمل، وهو يقول: أحد أحد.
وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أما سمعت أبا ذر ما يقول فيّ؟ يقول فيّ: كيت وكيت! فتغيظ عليه الصلاة والسلام، وأتى أبو ذر فسمع بالخبر، فاندفع مسرعاً إلى المسجد، فقال: يا رسول الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى قيل: ما ندري هل رد أم لا؟ وقال: {يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية} هذه كأنها صاعقة على أبي ذر، فبكى أبو ذر وأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جلس، وقال: يارسول الله! استغفر لي، سل الله لي المغفرة، وفي الأخير أتى عليه الصلاة والسلام فجلس واستدعى بلالاً وطلب منه أن يسامح أبا ذر، أما أبو ذر فخرج من المسجد باكياً.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ذهب فطرح رأسه في طريق بلال، وأقبل بلال العبد، ماكانت تقيم الجاهليةُ له قيمةً، التمييز العنصري الذي سحقه الإسلام، بلال سيدنا، يقول عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] أتى أبو ذر فطرح خده على التراب مباشرة، وقال: [[والله يا بلال! لا أرفعه حتى تطأه برجلك، وأنت الكريم وأنا المهان]].
رفع الله منزلتك يا أبا ذر! إلى هذا الحد تأديب الإسلام.
وحياة القرآن! {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
أتى بلال فأخذ يبكي من هذا الموقف! من الذي يستطيع أن يقف هذا الموقف ولا ينصدع قلبه؟! إن بعضنا يسيئ إلى البعض عشرات المرات، ولا يقول: عفواً يا أخي أو سامحني.
إن بعضنا يجرح بعضاً جرحاً عظيماً في عقيدته ومبادئه وأغلى شيء في حياته، ولا يقول: سامحني إن البعض قد يتعدى بيده على زميله وأخيه ولا يقول: عفواً يا أخي.
لكنه قال: والله لا أرفع خدي حتى تطأه بقدمك، فبكى بلال واقترب فقبل خده ذاك الخد ما يصلح للقدم يصلح للقُبلة، ذاك الخد أكرم عند الله من أن يوضع عليه القدم، ثم قاما وتعانقا وتباكيا.
إذا اقتتلت يوماً وفاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
هذه حياتهم يوم تعاملوا مع الإسلام: {أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية} ليس عندنا معامل ألوان، ولا أبيض ولا أحمر ولا أسود، أو من آل فلان، أو من آل فلان، عندنا تقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ولذلك إذا رأيت الإنسان يتمدح بآبائه وأجداده وهو صفر، فاعرف أنه لا قيمة له عند الله.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا
طرق طارق على عمر، فقال: [[من الطارق؟ قال: أنا الكريم بن الكريم بن الكريم أتدرون من هو هذا الرجل؟ إنه عيينة بن حصن بن بدر]] وقد صدق، فإن بني بدر أسرة من أكبر الأسر في العرب، حتى حاتم الطائي على كرمه يمدحهم، ويقول: هم أكرم مني، تخاصم حاتم وامرأته فقال:
إن كنت كارهة معيشتنا هاتي فحلي في بني بدر
الضاربون بكل معترك والطاعنون وخيلهم تجري
فأسرة بني بدر من أعظم الأسر، فأتى هذا لكنه ارتد وعاد إلى الإسلام فحسن إسلامه.
قال عمر: [[بل أنت الأخس بن الأخس بن الأخس، الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -ودخل الرجل وليته سكت- فلما جلس قال: هيه يا عمر! ماتحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فقفز عمر إلى الدرة، يريد أن يؤدبه، وأن يضربه ضرباً مبرحاً، حتى ما يدري أين القبلة، فقام الحر بن قيس وهو فتى من جماعة عيينة يحفظ القرآن، وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وهذا جاهل فاتركه، وكان عمر وقافاً عند حدود الله، فقال: والله ما تعداها ولا تجاوزها، فأسقط العصا وجلس]] وهكذا كان تعاملهم مع القرآن.
وفيها دروس:-
الاعتذار من الأخ إذا أسأت إليه الهدية، والبسمة الحانية، والمعانقة، وألا تحمل ضغينة على أخيك، نحن وإياكم نشجب كل هذا العداء والمريرة بين الأحبة، والتفلت على أوامر الله، والضغينة من أجل أمور نسبية يختلف فيها الناس، وقد تختلف فيها وجهات النظر ألا إن من يفعل ذلك أو يحمل على أخيه المسلم فقد أساء وظلم.