عن أبي سلمة والضحاك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسماً، قال: فقال: ذو الخويصرة -أي: التميمي - يا رسول الله! اعدل}.
سبحان الله! يقول لمعلم الخير وأعدل الناس وأتقى الناس: (اعدل) إنها كلمة تنهد منها الجبال، وتتقصم بها الظهور، ويندى منها كل جبين يؤمن بالله واليوم الآخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ويلك! من يعدل إذا لم أعدل} صدق عليه الصلاة والسلام، أين توجد العدالة إذا لم توجد عنده؟!
وأين توجد التقوى والخشية والوضوح والإنصاف إذا لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم؟!
ما بعد شريعته إلا الظلم والفشل والانهزامية والتقهقر.
قال خالد: ائذن لي فأضرب عنقه، قال: {إنا لا نقتل من يصلي، ثم قال: يخرج من ضئضئ هذا رجال يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، يخرجون على حين فرقة من الناس، آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، قال: أبو سعيد أشهد إني لسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أني كنت مع علي حين قاتلهم فالتمس في القتلى، فأتي به على النعت الذي نعت النبي صلى الله عليه وسلم}.
خلاصة القصة أو بسطها في غير هذا النص من الحديث بجمع الزيادات.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حنين يقسم الغنائم بين الناس، وكان يعطي وجوه القبائل لأمور يعلمها الله عز وجل، منها التألف ليدخلوا في الدين، فدخولهم في الدين مصلحة عظيمة للإسلام؛ لأن بعض الناس إذا دخل في الدين دخل معه ألوف، ويترك الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الإيمان واليقين والسكينة.
قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في الناس فقال: {يا أيها الناس! والذي نفسي بيده إني لأعطي بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الهلع والجزع، وأدع بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الخير منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو: كلمة والله ما أريد لي بها الدنيا وما فيها}.
فأتي صلى الله عليه وسلم يفعل بالغنائم على هذا المنوال فيترك الصحابة ووجوه أهل الهجرتين، والبيعتين، والعقبتين، وأعطى أناساً ما تمكن الإسلام في قلوبهم، أعطى هذا مائة ناقة وهذا مائة، وفي الأخير تذمر الناس من هذا، فهم بشر يصيبهم الضعف، فاجتمع الأنصار، لكن اجتماعهم كان عقلاً وتؤدة وسكينة وحكمة، لا كالخارجي المقطوع من حبل الله، فاجتمعوا في مكان بعد أن أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، بعد أن سمع أنهم يقولون: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي أولئك وسيوفنا تقطر من الدماء ويدعنا، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدهم سعد بن عبادة: يا سعد! أين أنت من هذا الكلام؟ قال: أنا من قومي -أي: أنا أقول مثل ما قالوا- قال اجمع لي قومك، فاجتمع الأنصار جميعاً، ثم أتى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، وأشرف عليهم بوجهه الطاهر المنور، فخطبهم خطبة ما سمع الدهر بمثلها، فقال: يا معشر الأنصار ما مقالة سمعتها منكم؟
قالوا: هو كما سمعت يا رسول الله حق -هذا مجلس مناصفة ومحاقة وحوار صريح- قال: يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي، قالوا: المنة لله ولرسوله.
قال: أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ ثم لما انتهى قال: يا معشر الأنصار! والذي نفسي بيده، ولو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وفقيراً فأغيناك، وشريداً فناصرناك، أو كما قال، قالوا: المنة لله ولرسوله، فرفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: {يامعشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، والله لما تعودون به خير مما يعود به الناس، والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعب الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} فبكى الأنصار.
وخرج عليه الصلاة والسلام ورجع إلى الغنائم؛ لأنه قد حل هذه المشكلة، لأنه يتكلم مع فقهاء، وعلماء، وعقلاء.