أفتى النابلسي محدث مصر العظيم، فقال: من عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم، والفاطميين بتسعة أسهم، فغلط الجاسوس، فرفع الخبر للسلطان وفيه: فليرم النصارى بتسعة والفاطميين بسهم، فاستدعى السلطان النابلسي وقرأ عليه الخبر، فقال: هذا غلط، حرفتم الفتيا، قلت: يرميكم بتسعة والنصارى بسهم، فصاح السلطان: علي بالجزار والسكين، فصاح النابلسي: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73] فأخذه يهودي يسلخ جلده سلخاً بالسكين كما تسلخ الشاة، علقوه بقدميه فأخذ يسبح بأصابعه؛ لأنه من رواة حديث: {من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر}.
ألم أقل لكم: لن تجدوا أشجع من أهل السنة وقت التضحيات!
السني وقت التضحية يزري بالبعثي والناصري والقومي، لأن السني من سلالة أبطال بدر وأحد، وأولئك من سلالة أبطال حزيران وأيلول الأسود:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ولو كان سيفي في يمينك لانتحى عليك ولكن فات يوم التلاوم
مطعم العلماء، ومكرم الفقراء: أطعم ابن بقية الوزير المساكين والفقراء وأكرم العلماء، فغار منه السلطان، واحتال عليه حتى قتله وصلبه، فلما ارتفع على الخشبة مصلوباً وقفت الأمة كلها بوقوفه، فطافت به قلوب المحبين، ونامت بغداد على أصوات البكاء، فترجل أبو الحسن الأنباري عن فرسه إلى خشبة الصلب، وسلم على الجثمان ودشنه بتلك القصيدة التي من لم يحفظها ففي تذوقه للشعر نظر:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأنك قائم فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران ليلاً كذلك كنت أيام الحياة
وما لك تربة فأقول تسقى لأنك نصب هطل الهاطلات
أصبحت خشبة ابن بقية مسرحاً تلقى عليه قصائد المادحين، وخطب المثنين، وأصبح من قتله في صغار كأنه طلي بالقار.
الذي يعشق الليالي الحمراء لا يستعيد قرطبة والزهراء، ومن يستورد أفكارهم من لندن ويسهر على دندن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
خرج سعد بن أبي وقاص -بطل القادسية - على الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه الصحابة، فلما رأوا سعداً قال عليه الصلاة والسلام: {هذا خالي فليرني كل خاله} فلم يخرج أحد خالاً كخاله، المتحدي قوي والمتحدى به أبي.
فلما حضرت القادسية والجموع الفارسية، حضر الخال يقود الأبطال، فحصل النصر قبل العصر؛ لأن الناصر هو القهار، والقائد خال المختار:
وقفت لك الأبطال تصغي في الوغى ووقفت تخطب بالقنا الخطار
والخيل تسمع والكتائب صفقت وترى الجماجم أحرقت بالنار
أرسل القائد العظيم صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليقتل خالد بن سفيان الهذلي، عدو الدين فقتله واحتز رأسه ليعطي المعصوم البينة على قتله، فسلم الرأس وضمن له صلى الله عليه وسلم الجنة، وشهد العقد الحضور، وأعطاه صلى الله عليه وسلم عصا؛ ليتوكأ بها في الجنة زيادة في التبجيل:
يتوكئون على العصا من هيبة أهل الرزانة في حضور المحفل
قرع العصا عند الخطابة دأبهم لا يتركون الخطب حتى ينجلي
أدخل ابن أنيس رأسه في الجنة لما أدخل رأس خالد الهذلي النار، رأس برأس والجروح قصاص.
أم سليم أنصارية، لا تملك ذهباً ولا فضة، أرادت أن تهدي لمعلم البشرية هدية، فما وجدت أغلى من ابنها أنس، فدفعته خادماً للإمام، فقال لسان الحال: يا بشرى هذا غلام، فكان ثواب الهدية: {اللهم أطل عمره، وكثِّر ماله وولده، واغفر ذنبه} فسعد الخادم بخدمة المخدوم سعادة لا شقاء بعدها.
أم سليم مهرها من أبي طلحة؛ لا إله إلا الله، فأخجلت بمهرها كل فتاة تغالي في المهر، يقول عليه الصلاة والسلام: {دخلت الجنة البارحة، فرأيت الرميصاء في الجنة} والرميصاء أم سليم لأن مهرها أدخلها من الباب، فأذن لها الحجاب، عرفت المفتاح فسكنت الدار:
لك الله من مخطوبة عز مهرها تعالت بثوب المجد عن كل خاطب
أبوها من الأعياص زينب أمها وزينب بنت الفضل لا كالزيانب