وفي السير لـ ابن إسحاق وابن هشام، بسَنَدَين جيِّدَين، قالا: أتى وفد بني تميم -بنو تميم قبيلة عملاقة من قبائل العرب الشهيرة- إلى المدينة لتُسْلِم، وقد أتى وفدها في العام العاشر أو التاسع ليُسْلِم، فقدم الوفد وكانوا ثمانية، اختيروا اختياراً في مجالات التخصص، فأخذوا معهم حليم العرب قيس بن عاصم، والأديب الخطيب عطاء بن حاجب بن زرارة وعمرو بن الأهتم المدره، والشاعر الزِّبرقان بن بدر، إلى مجموعة أخرى، وقدموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا -وهم الذين نادوا من وراء الحجرات -: يا محمد! نحن لا نسلم حتى تبارينا في مسجدك، ونفاخرك وتفاخرنا، ويسمى هذا -كما ذكره ابن قتيبة -: المناثرة، والمناثرة عند العرب: أن يأتي وفد لوفد، فيذكرون مآثرهم وتاريخهم في الجاهلية، فمن غلب أسند له القياد، وسُلِّمَت له الحكومة، فقالوا: نباريك، قال: بماذا؟ قالوا: معنا خطيب وشاعر، ونريد خطيبك وشاعرك.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأخر، فعنده الإمكانيات، وعنده القدرات، وفي المسجد عليه الصلاة والسلام دعا ابن رواحة، فقال ابن رواحة: أنا شاعر المُهْلَة، أي: لا أستطيع في البداهة أن أنْظِم قصيدة، فدعا حساناً وأتى وفد بني تميم، واجتمع الناس، وارتقى الزِّبرقان بن بدر على المنبر ليقول:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تُنْصَبُ البِيَعُ
إلى قصيدة تقارب الخمسين.
والرسول عليه الصلاة والسلام يستمع إليه والصحابة، ويريدون أن تعتلي قصيدة حسان قصيدة ذاك المشرك الذي يريد الإسلام.
وقام حسان؛ ودعا له الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤيَّد بروح القُدُس الذي هو جبريل، فقام في الحال، وألقى قصيدته الفذة البارعة النادرة في تاريخ الأدب، حيث قال:
إن الذوائب مِن فِهْرٍ وإخوانهم قد بينوا سنناً للناس تُتَّبَعُ
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
فلما انتهى قال بنو تميم: غلب شاعرُك شاعرَنا.
وقام خطيبهم وألقى خطبة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أين ثابت بن قيس بن شماس؟} فهو يعطى القوس باريها، وأهل التخصصات تدفع إليهم التخصصات.
فقام ثابت، فألقى خطبة، فغلب خطيبهم، فأسلموا، وأعلنوا إسلامهم.
بهذا العمل يتبين أن المسجد أكبر مما يتصوره كثير من الناس، فهو يصلح أن يكون منتدىً أدبياً، تُلْقَى فيه الأمسيات، وتعقد فيه الندوات.