المشروع الأول للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً.

بنى المسجد، وعلَّم الناس في المسجد، وخرَّج الأجيال من المسجد.

صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

يا رواد المساجد! ويا جيل المساجد! ويا ضيوف المساجد!!

إن كان لي من شكر في أول هذه المحاضرة، فإني أشكر الله تبارك وتعالى على أن أجلسني في هذا المكان، ثم أشكر أهل الفضل على فضلهم، وعلى رأسهم: رئيس النادي الأدبي بـ أبها: الأستاذ الأديب محمد بن عبد الله الحُمَيِّد، ثم الأديب البارع الشيخ محمد بن إبراهيم النعمي، وأشكر كذلك صاحب الفضل وسعادة مدير أوقاف ومساجد منطقة الجنوب.

ثم إنني سعيدٌ جِدُّ سعيد بأن أتكلم عن هذا الموضوع، موضوع المساجد، وما أدراك ما المساجد؟

المساجد التي كانت من أعظم اهتماماته صلى الله عليه وسلم.

المساجد التي أثنى الله على عامريها، وبُناتِها، وروَّادها.

المساجد المَعْلَم الحضاري الكبير الذي تركه صلى الله عليه وسلم للتاريخ، ولِقُرَّاء التاريخ.

نسمع هذه الليلة حديثاً عن المساجد.

وأنا أشارك إقبال، شاعر الـ باكستان، يوم يعاتب الأمة الإسلامية على أنها أهملت رسالة المسجد، وجعلته زاوية للصلاة فقط، فقد عاتب الأمة الإسلامية في مقطوعة شعرية يقول فيها:

أرى التفكير أدركه خمولٌ ولم تَبْقَ العزائم في اشتعالِ

وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقالِ

وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي؟

منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالِ

وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلالِ

يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].

إنما يعمر مساجد الله: إما عمارة بالبناء والرفع والتعمير، أو عمارة بالذكر والصلاة والدعاء والإخبات، هكذا قال أهل العلم.

فالمنافقون والفجرة وأعداء الإسلام لا يعمرون المساجد؛ إنما يعمر المساجد الذي يريد الله ووجهه ولقاءه.

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن الرجال وهو يعرِّفهم بسيماهم وصفاتهم، يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36].

مَنْ؟ {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].

فسلام الله على رواد المساجد، وسلام الله على ضيوف المساجد.

والمساجد سوف أتحدث فيها عن أمور أربعة:

أولها: كيف كان المسجد منتدى، وكيف كان مجلس شورى، وكيف كان محكمة قضائية.

ثانيها: كيف جعل صلى الله عليه وسلم من المسجد ثكنة عسكرية، تنطلق منها الرايات، وتُعْقَدُ منها الألوية، وتصَنَّف منها الجيوش، وتُخَرَّج منها الكتائب.

ثالثها: المسجد روضة من رياض الجنة، عبادة وفكر واتصال بالواحد الأحد.

ورابعها: المسجد استقبال للوفود، وإرسال للاهتمامات في الأمة الإسلامية، وبناء للجيل.

ولكن أعود فأنثر ما بنيت؛ ليكون في مسائل منثورة، تُقَدَّم هكذا، بدون تنصيص أو تحديد؛ ليبقى الموضوع متكامل البنية، ولا يبقى سرداً؛ ليكون أخف على الأرواح وأطيب للنفوس.

قَدِم صلى الله عليه وسلم المدينة، فما هو مشروعه الأول؟

لقد قدم صلى الله عليه وسلم ولم يحمل دنانير ولا دراهم، ولكن حمل عقيدة ومبدأً وأصالة، فكان أول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم أن وضع حجر الأساس لبناء المسجد الإسلامي الكبير: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108].

مسجد بناه على (لا إله إلا الله).

مسجد أسسه لتنطلق منه الكتائب مكبرة في سبيل الله.

مسجد عقده ليكون نادِياً أدبياً يُعْلَن وتُطرَح فيه القصائد الرنانة في خدمة الإسلام.

يوم يأتي صلى الله عليه وسلم إلى حسان، شاعر الإسلام، وسيف الأدب الإسلامي، ووزارة الإعلام المتنقلة لخدمة مبادئ الإسلام، فيقدم له المنبر، ويقول له: {اهجُهُم وروح القُدُس معك}.

ويستقبل صلى الله عليه وسلم الوفود العربية من بني تميم، والأَزْد، وغَطَفان، وأسد، وفَزارة، فيُهَنِّيْهِم ويُهَنُّوْنَه، ويعانقهم ويعانقونه في المسجد.

فبدأ صلى الله عليه وسلم هناك، فأتى إلى المسجد فوضع حجر الأساس، ثم تلاه أستاذ الخلافة، ورجل الساعة، والصدِّيق الأكبر أبو بكر الصديق، فنزع حجراً آخر ووضعه بجانب حجره، ثم قام عمر الفاروق.

قد كنتَ أعدى أعاديها فصرتَ لها بفضل ربك حصناً من أعاديها

فأخذ حجراً ثالثاً ووضعه بجانب حجر الصدِّيق، وكأن الثلاثة يقولون للبشرية: هذه نهاية الوثنية، وهذه بداية معالم الإنسانية، وهنا تُخْنَق الوثنية، ويُذْبَح الشرك بإذن الله.

وسُقِّف المسجد؛ لكنه ما كان راقياً في بنائه، بل كان راقياً في مضمونه وعظَمته، وكان مشرقاً في روحانيته، وكان هادٍ في مسيرته.

طينٌ وسَعَفُ نخل وشيءٌ من خشب؛ لكن:

كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيتٌ من الطين أو كهف من العلمِ

تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيمِ

ودخله صلى الله عليه وسلم وقال: الله أكبر، ومن يوم قال فيه: الله أكبر؛ انتهت الوثنية، ودُمِّر الإلحاد والزندقة، ودُمِّر كل مبدأ ضال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ووقف عليه الصلاة والسلام خطيباً يوم الجمعة، يذرف بالكلمات الصادقة من على المنبر؛ ليقول للناس: مسجدنا هنا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015