ومن الناس من ولدوا وهم عمي كـ بشار بن برد، وهو شاعر من شعراء المولدين، عباسي أعمى القلب والبصر -نسأل الله العافية- حتى قال عن نفسه: أنه لم يرَ شيئاً منذ ولادته وكان يقول الشعر.
قال له بعض الناس: كيف تعشق وتتغزل وأنت لا ترى؟! قال:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
هو من أشعر الناس، وليته سخر شعره في رفع لا إله إلا الله، وفي نصرة الإسلام، يقول:
يا ليتني كنت تفاحاً مفلجةً أو كنت من ثمر الريحان ريحانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
كلام جميل، لكنه لا يحمل رسالة.
سمع رجل بيتاً من شعره يقول فيه:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدمَ
وكان من مكة فقال: والله لأذهبن وأرى هذا الرجل الذي صار ناحلاً، فلما وصل إليه ورآه فإذا هو كالدب الأسود، يقولون: وضع فراشاً له وجلس عليه يتململ كالدب الأسود، فدخل عليه، وقال: أنت بشار؟!
قال: نعم، قال: كيف تقول:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدمَ
وأنت بهذا السمن؟!
قال: أما سمعت الله يقول: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) [الشعراء:224 - 227].
مات هذا في سفينة، قيل: مات أعمى القلب والبصر، وقد كان شعوبياً يدعو إلى الإقليمية والقومية، وينقد العرب وكثيراً من مبادئ الإسلام، وإنما أذكر هؤلاء كنماذج لمن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18].
وممن ولد أعمى أبو العلاء المعري أحمد بن سليمان وهو شؤم على الإسلام وقد ذهب إلى الله، كان ذكياً بدرجة عظيمة، وبالغوا في ذكائه.
وأنا أذكر هذه المبالغة التي لا تقبل، ولكن ذكرها الذهبي وابن خلكان وصاحب البداية والنهاية.
فقالوا: نام على السرير -وكان عنده سرير مرتفع- ووضع تحت السرير درهماً، ثم قال: نزلت الليلة السماء بقدر درهم، أو ارتفعت الأرض بقدر درهم، فكشفوا فوجدوا درهماً فراشه، والعهدة على هؤلاء المؤرخين.
ولكنه من ظلمه وعماه وصممه عارض الشريعة.
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة:38] فجاء هذا يقول: كم دية اليد؟
قالوا: ديتها خمسمائة دينار من الذهب.
قال: في كم تقطع؟
قالوا: إذا سرقت ربع دينار قطعت.
قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وهو بكلامه هذا يعارض الله وكتابه، ولكن أخذه الله ثم لم يفلته أبداً، قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
بعد ماذا تستعيذ بمولاك؟!
بعد أن هاجمت الشريعة واستهزأت بالقرآن؟!
وقد رد عليه عبد الوهاب المالكي -بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فقال:
قل للمعري عارٌ أيما عارِ جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
يقول: اخجل من نفسك؛ فأنت عارٍ من التقى والأدب والمروءة؛ لأنك هاجمت الشريعة.
قل للمعري عارٌ أيما عارِ جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شعائر الدين لم تقدح بأشعار
وقد توفي وذهب إلى الله، وذكروا عنه في تراجمه: أنه كُشف قبره بعد حين، فوجدوا حية باركة على صدره {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] هؤلاء صم بكم عمي فهم لا يرجعون.
وهذا الكلندي الفيلسوف المشكك في الإسلام يستهزئ بالقرآن، يقول: أحاكي القرآن فأخذ قلماً ودواةً وصحيفةً ليكتب آيات عنده فيبست يده وشل نصف جسمه، والله المستعان.