الحث على عدم الاغترار بالدنيا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أمَّا بَعْد:

أيها الناس:

يقول أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه: [[إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل]].

خذ واضح الحل ودع ما اشتبها مخافة المحذور يا من فقها

وازهد بدنياك وأقصر الأمل واجعل لوجه الله أجماع العمل

وزهرة الدنيا بها لا تفتتن ولا تغرنك وكن ممن فطن

تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا

كبار السن في مجتمعاتنا الغالب فيهم التهالك على الدنيا، كانوا في الشباب أخف وأسعد حالاً من وضعهم اليوم، وقد صدق فيهم قول المعصوم عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {يشيب ابن آدم وتشب فيه اثنتان: الحرص على الدنيا، وطول الأمل}.

إن غالب كبار السن في مجتمعاتنا الإسلامية متهتكون في الدنيا، وتسعة أعشار أوقاتهم وحديثهم وسفرياتهم في الدنيا، اهتماماتهم في الدنيا في المعارض والعقار؛ والبيع والشراء؛ والمؤسسات والبناء، وتجد بعضهم لا يعرف المهم من دينه، ومع ذلك يهتم بشئون الدنيا ويجمع ويكدس ويهتم.

إذا أصبحوا أصبحوا كالأسود باتت مجوعة حاردة

فتجد كل اهتماماتهم في الدنيا ونحن لا نقول: حرام، ولا نقول لهم: لا تعملوا في البناء والعمارة، والبيع والشراء، وفي طلب الرزق، وفي الكسب، ولكن نقول: يا من شاب رأسه وشابت لحيته! أما تهيأت لعمل صالح تلقى الله به؟ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37].

قال أهل العلم: النذير هو: الشيب.

والشيب أمره عجيب؛ فإذا ظهر الشيب في رأسك أو في لحيتك، فكأنه يقول لك: تهيأ للقبر، فقد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من القبر.

وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أعذر الله لامرئ، بلَّغه ستين سنة} معنى ذلك: قطع الله المحجة عليه، فلا حجة له يوم القيامة عند الله إذا بلغ ستين سنة، ثم لم يهتد.

وكنت مع الصبا أهدى سبيلاً فمالك بعد شيبك قد نكثتا

مشيت القهقرى وخبطت عشوا لعمرك لو وصلت لما رجعتا

والله لو عرفت لذة المسجد والذكر والإيمان، ولذة المحاضرات والدروس ما فعلت بنفسك ما فعلت، رأينا من عمره أكثر من الستين وهو صباح مساء بين الحديد والإسمنت، ذكره قليل، ونوافله قليلة، قد ألغى قيام الليل من حياته؛ لأنه لا ينام إلا الثانية عشرة، وإذا صلى الفجر صلاها على عجل، وأخذ عماله وسيارته وباكر عمارته، ونحن لا نقول: حرام، ولكن نقول: أيصرف العمر في هذا الأمر؟!

أترضى أن تصرف ساعاتك الغالية الثمينة وأيامك الممدوحة الجيدة في هذه الأمكنة؟

كم تسكن وتعمر وتتلذذ؟

رأينا من عمر فلة فلما جهزها وفرشها مات، ورأينا من كدح وجمع واشترى مزرعة، فلما بنى فيها بيتاً وحفر بئراً مات.

لكم فجع الموت من والد وكم أسكت الدهر من والدة

وكم قد رأينا فتىً ماجداً تفرع من أسرة ماجدة

يشمر للحرب في الدارعين ويطعم في الليلة الباردة

رماه المنون بسهم الردى فأصبح في جثة هامدة

ماذا ينور القبر؟ ينوره العمل الصالح.

وأنا أقول: يا من شابت لحيته ورأسه! اتق الله، فإن هذا الشيب نذير.

يقول أبو العتاهية:

بكيت على الشباب بدمع عيني وما يغني البكاء ولا النحيب

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

تسهر ولا تتلذذ بالمطعوم والمشروب، ذهبت لذة القوة والحياة، ومع ذلك تجد بعضهم ما زال مُصراً على المعاصي والانغماس في الدنيا وعدم التهيؤ للقبر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015