والأساس الثالث: علم الصحابة، وميزة علم الصحابة على علمنا ثلاث:
1 - يسر علم السلف:
الميزة الأولى: أن علمهم يسير، وبعض الناس بحسن قصد أو بسوء قصد صعبوا العلم على الناس، حتى تجده يقول: لن تحصل على العلم، حتى تترك المنام، وتهجر الفراش، وتقلل من الأكل، وتقرأ في اليوم كم ساعة، وفي الليلة كم ساعة، وتحفظ هذه المنظومات، وهذه المتون، فيأتي طالب العلم فيصطدم بهذه الألغاز التي نصبوها شباكاً للناس, ويعود خائباً خاسراً حسيراً على وجهه فلا يطلب العلم، يقول: ما دام أن العلم بهذه الصعوبة فلن أطلبه، حتى يقول محمد بن إبراهيم الوزير -العالم الكبير النحرير؛ اليمني، الذي يعتبر من فطاحل العلماء في القرن الثامن- يقول: لقد اشترط المتأخرون في العالم شروطاً لا تنطبق على أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، نعم.
اقرءوا في كتب أصول الفقه، يقولون: أن يحفظ القرآن، ويحفظ كذا ألف من الحديث، ويعرف أصول الفقه، ويلم باللغة، ويحفظ كذا من القواعد، وكذا من الضوابط، تعال طبق هذه الأمور على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فميزة علم الصحابة اليسر، نقولها بكل شجاعة وجرأة، كان عليه الصلاة والسلام يقرأ الآيات، فيعرفون معناها، ويعطيهم الحديث فيستخرجون منه الحكم، أما يقول الله عز من قائل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] قال مجاهد: ولقد يسرنا طلب العلم, فهل من طالب علم؟ تأتي بما أتاك الله من فهم بعد أن تستغفر كثيراً, وتتوب إلى الله، وتصحح النية وتطلب العلم لوجه الله، فسوف يفتح الله عليك، أما هذه التشديدات وهذا التزمت والتشنج الذي عرض من القرن الخامس فما بعد, وحرموا الناس من طلب العلم لأجله وردوهم إلى صعوبات، وأوثقوهم حبالاً وأنزلوهم جبالاً، فهذا ليس بوارد، فعلم الصحابة يسر، إن أبا بكر لم يرو من الحديث إلا ما يقارب مائة وخمسين حديثاً في كتب السنة، وهو أفضل وأعلم وأتقى وأورع من أبي هريرة الذي روى خمسة آلاف وسبعمائة وستة وعشرين حديثاً، وبعض الناس يعيش في هذا العصر, فيحفظ عشرة آلاف حديث، فهل هو أعلم من أبي بكر؟ لا والله، لكن في الموطأ موقوفاً: {ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن بإيمان وقر في صدره}.
2 - عمق علم السلف:
فعلمهم عميق ليس بسطحي، روى سعيد بن منصور في السنن أن ابن مسعود رضي الله عنة وأرضاه، قال: [[يا أيها الناس! عليكم بأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم أبر الأمة قلوباً, وأصدقها لهجة, وأعمقها علماً, وأقلها تكلفاً]].
العمق في العلم الدقة, ومعرفة المقاصد، وأخذ العلم النافع.
3 - علم السلف يطلب للعمل:
والميزة الثالثة لعلم الصحابة: أنه علم يطلب للعمل، أما نحن -نسأل الله العافية والسلامة- واسألوا أنفسكم جميعاً، لو فكر أحدنا في اليوم والليلة أن كثيراً من المسائل يتشاغل بها وقد لا تعرض عليه في حياته الدنيا، وقد لا يستخدمها, ولا يحتاج إليها, وقد ينشغل بها عن الفائدة, أو عن العلم النافع الذي يحتاج إليه في كل ساعة ولحظة، فعلم الصحابة علم يراد للعمل, روى الدارمي في كتابه السنن بسند حسن إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، أن صبيغ بن عسل -أحد أهل العراق - أتى فجلس في الجيش عند أبي موسى الأشعري في العراق، فجلس بين الصحابة يطرح الشبهات ويضارب بين الآيات، يقول: قال عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] ويقول هناك: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] ويقول هناك: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1].
فيقول بعض الجيش: لا ندري والله ما المراد، فيقوم من الحلقة ويجلس في الحلقة الأخرى ويقول: لماذا يقول الله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] ويقول هناك: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] هنا ينفي السؤال وهنا يثبت
Q فقالوا: لا ندري، فرفع أمره إلى أبي موسى , فرفع أبو موسى أمره إلى p=1000202>> عمرو بن العاص، فأتى p=1000202>> عمرو بن العاص فأخبر عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: في رحالنا، يعني: تركته مع الإبل في طرف المدينة، قال: احذر, لا يفوت الرجل فتمسك مني عقوبة، ثم قال: عليّ به، فذهب عمرو رضي الله عنه يأتي بالرجل، أما عمر فقال: عليّ بعراجين النخل، يريد أن يعالجه ويجيب على أسئلته بما لا ينساه أبد الدهر، تمر به ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر فلا ينسى، فلما أتوا بعراجين النخل خضراً, وضعها بجانبه وقال: تعال، أأنت الذي يسأل في الجيش؟ قال: نعم.
قال: امسك الرجل، فأمسك رجل بيمينه وآخر بيساره، ثم أتى عمر وضربه ضرباً حتى أدماه، فلما غشي عليه، قال: رشوه بالماء، واذهبوا به إلى رحالكم وغداً تأتونني به، فذهبوا به، وفي الغد أتوا به، فضربه عمر حتى أدماه، فقال عمر: رشوه بالماء، واذهبوا به وغداً تأتونني به، فأتوا به في اليوم التالي، فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد دوائي فقد داويتني، وإن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فقال عمر: يا عدو نفسه! يا عدو الله! قاتلك الله، ومن كلفك أن تتعمق هذا التعمق وتسأل هذا السؤال، والذي نفسي بيده، إن عدت إلى ما كنت تفعل لأجعلنك عبرة للمعتبرين, وعظة للمتعظين وصدق رضي الله عنه ثم قال للجيش: لا يكلمه منكم أحد؛ اهجروه فكان يجلس وحده لا يكلمه أحد، ولا يسلم عليه أحد، حتى طالت به المدة، فتاب وأناب وأتى إلى أبي موسى يبكي، وقال: ردني إلى الناس، فكتب لـ عمر وأخبره، وقال: دعه يكلمه الناس ويجلسوا معه.
علم عمر أن العلم الدخيل سوف يدخل على الأمة بالتشكيك في الكلام, والجدل الذي يقضي على الأعمار, ويضيع الليالي والأيام, جلسة طويلة من بعد صلاة العشاء إلى ما يقارب الساعة الثانية عشرة في جدال عن دوران الأرض، ويقوم بعض الناس فيتضارب ويتصارع مع بعض الناس في المجلس، كيف تدور الأرض؟ وبعضهم يقول: لا تدور، والله لا يسألنا يوم القيامة، هل تدور الأرض أو لا تدور؟، وبعضهم يسأل، ويقول: أطفال المشركين هل يعذبون أو لا؟
وجدل عقيم لا طائل فيه، ولو أدرك عمر بعضنا لضربهم ثلاثة أيام؛ لأنه يريد أن يشتغل الناس بالعلم الأصيل لا بالعلم الدخيل.
تقدم أن علم الصحابة يتميز باليسر والعمق وأنه يطلب للعمل؛ أتى رجل إلى زيد بن ثابت فسأله مسألة، قال: [[أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: إذا وقعت، فتعال لنتجشم لك الجواب]] وأكثر المسائل الآن يجاب عنها وما وقعت.
يأتي أحد الناس يقول -مثلاً-: لو صليت خلف الصفوف، ثم ما شعرت أنهم يصلون الظهر, وهم يصلون العصر، فماذا الحكم؟ وهو ما فعل وما صلى وما حدثت له القصة.
ومن ضمن الأمثلة كذلك: أهل التفسير وهم مشكورون ومأجورون على عملهم, يأتون بمسائل لا يستفاد منها صراحة، كلون الكلب الذي كان مع أهل الكهف، قال بعضهم: كان مبرقشاً، قال ذاك: أخطأت ليس مبرقشاً، بل هو مبرقع، فيرد عليه آخر قال: لا.
بل هو أحمر يميل إلى الصفرة، فيقول ذاك: بل هو بنفسجي يميل إلى الحمرة، والواجب أن تتأكد من النقل، ثم يقول: والأحسن الذي نخرج به من الجدل أن يكون على عينيه نقطتان بيضاوان، وهذا ما كلفنا بطلبه ولا بعلمه، والله يقول بعدها: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} [الكهف:22] يقول: لا ينفعك أنهم ثلاثة ورابعهم كذا، أو خمسة وسادسهم، أو سابعهم وثامنهم، قال تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ} [الكهف:22].
وبعضهم يقول: اسم المرأة التي هم بها يوسف وهمت به زليخا، قال الثاني: لا.
اسمها برجا، قال الثالث: لا.
اسمها يازي، وهم ليس لهم سند ولا رواية، يسودون الصحف بهذا الكلام، فهذا من العلم الدخيل على المسلمين، وقد حصل في الأمة.