واسمعوا إلى الآية الأخرى، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] لنقرأ ما قبل الآية، لنتبين ما هو العلم الذي يقصده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أهو الحفظ أو الشهادات، أم هو كثرة التبجح بالمقامات, والمنظومات، والمؤلفات، والمصنفات؟ أم ماذا؟ يقول عز من قائل قبل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11] قال أهل العلم: ذكر الله العلم هنا بعد الأدب، فالأدب علم، وكثير من الناس يتعلم ولا يتأدب، فلا يتأدب في صلاته ولا في زيارته لأحبابه وإخوانه, ولا في جلوسه في المجلس، ولا يتأدب في استئذانه، ولا في زيارته للمريض، وقيامه وجلوسه, قال أهل العلم: إن قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة:11] هذا من الأدب الذي يحض عليه الله عز وجل, ثم قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة:11] وعطف عليه {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [المجادلة:11] لأنهم يتفسحون, وينشزون, ويتأدبون، إذاً نأخذ من هذه الآية شاهدين:
الأول: الأدب علم يعبد به الله عز وجل، ولذلك عقد ابن القيم في كتاب مدارج السالكين باب الأدب، وتبع في ذلك شيخ الإسلام أبا إسماعيل الأنصاري، لأنه قال: (ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب) والأدب: حفظ الجوارح مع الله، وقيل أنه إذا خلوت بالله كنت أشد حياء منه، من إذا جلوت بالناس.
وقيل: هي أن تحبس مرادك على مراد الله، قال معاذ رضي الله عنه وأرضاه في الأدب: [[ما بصقت عن يميني منذ أسلمت]] وقال أحدهم: ما مددت رجلي تجاه القبلة منذ عرفت يميني من شمالي، وإن كان ذلك جائزاً وقال ابن المبارك: نحن بحاجة إلى كثير من الأدب مع قليل من العلم، وقال: أن نجعل علمنا طعاماً, وأدبنا ملحاً، والواجب أن نجعل أدبنا طعاماً, وأن نجعل علمنا ملحاً.
ومن الأدب ما تأدب به الصالحون، وربما نذكر بعض النماذج فيما بعد.
والدليل الثاني من الآية: أن من لم يتأدب فقد نقصه علم أصيل, ودخل عليه علم دخيل.