عبد الله بن المبارك العالم الجهبذ المحدث الكبير الزاهد رضي الله عنه أتته سكرات الموت فأخذ يتبسم، أرأيت متبسماً يتبسم للموت؟! لا.
إلا الأخيار الأبرار، يقول المتنبي لـ سيف الدولة يمدحه بأنه يتبسم لكنه يتبسم لدنياه وشهرته:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
نثرتهمُ فوق الأحيدب نثرة كما نُثرت فوق العروس الدراهم
تبسم عبد الله بن المبارك فقال له الناس: مالك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، لمثل هذا فليعمل العاملون، وأقف مع عبد الله بن المبارك قليلاً لأنه من الذين رسموا الطرق إلى الجنة، ومن الذين قادوا موكب صحوة الإسلام إلى الجنة، وعرفوا الناس بطريق الجنة إلى الله تبارك وتعالى.
يسمع بداعي الجهاد في خراسان، فيترك الحرم ويترك مكة ويأخذ بغلته ويركبها، فيقول له الناس: ابق في الحرم، الصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة فيما سوى الحرم، قال: لا.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
خرج وذهب للجهاد وأتته رسالة من الفضيل بن عياض يدعوه أن يعود من الجهاد إلى الحرم المكي فكتب للفضيل على خلف الورقة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
العبادة التي نحن فيها أرقى مما ذقت في الحرم، العبادة يوم يسيل الدم، العبادة يوم نتنفل لله بالركعات في جنح الليل في الظلام البارد الذي يقع كالسكاكين على الجسم، العبادة يوم يقف الإنسان ليحمي حوزة الدين.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
إن كنت تبكي فبكاؤنا من نوع آخر، نحن أجسامنا تسيل دماً وأنت عيناك تسيل دمعاً، والدم أغلى عند العقلاء من الدمع.
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
عبد الله بن المبارك الذي عرف طريق الجنة بالعلم، ولكنه بالعمل والصدق مع الله، خرج حاجاً إلى مكة ومعه قافلة، فكان يمول كل أهل القافلة وينفق عليهم من مال الله الذي آتاه، وإذا بامرأة تخرج من قرية حول الكوفة إلى المزبلة فتأخذ غراباً ميتاً، فيقول لمولاه: اذهب إلى هذه المرأة وسلها، لماذا أخذت الغراب؟ فسألها المولى، فقالت: والله ما لنا من طعام من ثلاثة أيام إلا ما يُلقى في هذه المزبلة، فدمعت عينا عبد الله بن المبارك وأمر بأمواله أن توزع على أهل القرية جميعاً، ثم عاد إلى بلاده ولم يحج، ورأى في المنام قائلاً يقول: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور، رضي الله عنه وأرضاه فقد عرف طريق الجنة.
وكما تعرفون أنه ألف كتاب الزهد، فكان يأتي ليقرأ كتاب الزهد فكأنه بقرة منحورة من خشية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تلميذه الذي يصاحبه في السفر: سرت معه ليلة، فدخلنا إلى غرفة في طريق السفر فانطفأ السراج فذهبنا نبحث عن السراج فلما أتينا بالضوء والسراج وجدناه يبكي، قلنا: مالك؟ قال: تذكرت -والله- القبر بظلمة هذه الغرفة.
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
فيا من أراد الجنة إن الجنة وصفها وحقيقتها في القرآن والسنة، ويا من أراد أن ينجو يوم القيامة، يوم العرض الأكبر عند الله عز وجل! فاسلك الطريق إلى الجنة، الطريق إلى الجنة التي سلكها الأخيار.
قدم للإمام أحمد اللحم والملذات، لكنها ثمن لدينه ومبدئه الأصيل يوم وقف حصناً لـ أهل السنة والجماعة في فتنة القول بخلق القرآن عند المأمون ولكنه لم يره، بل مات في الطريق وعند المعتصم والواثق، وقالوا: نغدق عليك، ونعطيك، ونوليك، فقال: لا والله، طعام دون طعام، ولباس دون لباس وأيام قلائل حتى نلقى الله، وما ذاك إلا لأنه عرف طريق الله.