وقال عليه الصلاة والسلام: {آلْفَقْرَ تخافون؟ والذي نفسي بيده لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صَبَّاً، حتى لا يزيغَ قلبَ أحدِكم إذا أزاغَهُ إلا هي، وايْمُ الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء} رواه ابن ماجة عن أبي الدرداء، وسنده حسن.
معاني المفردات:
{آلْفَقْرَ تخافون؟} معناه: هل تخشون الفقر من بعدي؟! وهذا الاستفهام للإنكار، أي: لا تخشوا الفقر؛ فإنه لا يُخْشَى منه، ولا تموت الأمة بالفقر، بل الذي قَتَل الناس هو الغنى، والذي دمَّر كثيراً من البيوت هو المال والثراء.
{والذي نفسي بيده لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صَبَّاً} أي: لَتَكْثُرَنَّ عليكم الأموال كثرة هائلة، وقد حدث هذا، حتى أصبح الغنى أمراً عجيباً.
ثم يقول: {لا يزيغَ قلبَ أحدِكم إذا أزاغَهُ} أي: لا يَمِيْلُه، كما قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] والزَّوَغان: الميل، ولا يُمِيْلُ القلوبَ إلا الدنيا، ولذلك نسبة الانحراف في الأثرياء أكثر منها في الفقراء؛ وإلاَّ فعلى مستوى الأفراد قد يأتي الثري أتقى لله، وأصلح من الفقير، وهذا أمر مُشاهَد.
{وايْمُ الله} وهذا قسم، كان يقسم به عليه الصلاة والسلام وهو مثل: تالله، وبالله، ووالله.
{لقد تركتكم على مثل البيضاء} أي أن الشريعة والسنة مثل البيضاء، قيل: البيضاء هي الطريق الواضحة، وقيل: البيضاء الليلة المقمرة، وقيل: البيضاء: هي المسلك الذي لا عوج فيه.
وكل المعاني صحيحة.
{ليلها ونهارها سواء} تَرَكَنا عليه الصلاة والسلام على محجة واضحة، لا لَبْس فيها، وهي ظاهرة للعَيان، وشريعة كاملة، ولذلك قبل سنوات كان في الناس عدم تَمَيُّز، يعيش الناس في العالم في ثلاث معسكرات:
معسكر إلحاد.
ومعسكر إيمان صريح صحيح.
ومعسكر وسط، فهم قوم تأتيهم شُبَهٌ وخطراتٌ؛ لكنه وسط، قد يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون، ولكنهم لم يتميزوا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ولكن في هذه الصحوة، والعودة إلى الله أصبح اليوم هناك تَمَيُّزٌ، حتى على مستوى العالم، لا تجد العالم الآن إلا يناشد التميز، حتى البلشفي الروسي الملحد أصبح يتميز، إما أن يدخل في دين، وإما أن يتجرد عن دين.
وهذا معلوم لديكم، كَمَنْ يقرأ كتاب الانفتاح المترجم والموجود لـ جرباتشوف، الذي أصبح قبل سنتين نصرانياً مسيحياً، أي أنه تَدَيَّن، وأصبحت وُلايَتا أذربيجان وأوزبكان، والولايات الجنوبية في شمال أفغانستان أصبحت تنشد الإسلام.
رُفِعَ (لا إله إلا الله) على المآذن، إمَّا دينُ إسلامٍ، وإما تبروء خالص، أما هذا الوسط، فإنه قليل في الناس، وهذا حتى في واقعنا اليوم، إما قوم أقبلوا على الهداية، وأقبلوا على الرب سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وعلى المسجد، وإما قوم ينحرفون تماماً، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة وفي أمثالها ولها بحث آخر، وسوف يكون هناك -إن شاء الله- محاضرة عن مسألة (الشيوعية: أصولها ونتائجها) وعن: (أدوار العلمانية) بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد شهر أو ما يقارب ذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم: {آلْفَقْرَ تخافون؟ والذي نفسي بيده! لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صَبَّاً} كان الصحابة في الغالب فقراء؛ فإذا أتت غنيمة اجتمعوا عند الرسول عليه الصلاة والسلام فحذَّرهم، وأخبرهم أن الفقر لا يُخْافُ منه، بل يُخَافُ من الغنى، حتى يقول ابن عوف رضي الله عنه وأرضاه: [[ابتُلِينا بالضراء؛ فصبرنا، وابتُلِينا بالسراء؛ فلم نصبر]] أي: ابتُلِينا بالفقر؛ فصبرنا، فلما ابتُلِينا بالغنى ما صبرنا، ويقول أحد السلف: [[كنا فقراء متآخين، فلما تغانينا واغتنينا حمل بعضُنا السيف على بعض]].
مَرَّ قيسُ بن زهير - وهو شيخ من مشايخ القبائل في الجاهلية - بقومه؛ فوجدهم فقراء، قال: الحمد لله، قالوا: ما لك؟ قال: يتعاونون ويتساعدون، ثم مَرَّ بعد سنة، وإذا هم أغنياء، عندهم خيل وبقر وإبل، فغضب، قالوا: ما لك؟ قال: يتقاتلون، وما مَرَّ على كلامه أشهر إلا وقد وقعت مقتلة بينهم.
فالغنى له أسباب وتأثيرات، منها: الحسد، والضغينة، والبغضاء، والتناحر، وترك الطاعة عند كثير من الناس؛ لأنهم يشتغلون بأموالهم من دون الله عز وجل.