إن يوم القيامة هو المدرسة الكبرى التي تهذب أخلاق الناس، والتي تردهم إلى الله عز وجل، والتي تجعلهم عباداً صالحين.
هذه القضية الكبرى هي الفارق بيننا وبين العلمانية والشيوعية والماسونية واليهودية، وهي الخيط الرفيع، وهي الفيصل بيننا وبين المذاهب الترابية الأرضية والقومية التي ينادونها بشعارات، هذه هي الفارق بيننا وبين كل من يدعي الأرض والتراب والوطن.
نحن نعمل للآخرة، غيباً وشهادة، حياة وموتاً، نتصل مع الله، وإلاَّ فحياتنا هذه قليلة قليلة، والله يجمع بين الحبيب وأحبابه في جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه مقررة في الكتاب والسنة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
والقرآن والسنة فيها الكثير من الحديث عن يوم القيامة والنشور، والجنة، والنار؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مُتَوَقِّعٌ أنه سوف يُطْغَى على الجيل ويُظَلَّل بوسائل وبأُطْرُوحات وبدعوات وبغزوٍ فكري.
العلمانية الآن هي السائدة في الساحة، وهي تبث أدواتها بزخرفة من الإعلام، وبكلام يعجب الناظرين، ومقصوده الإلحاد، لا الدين.
ولذلك لا يكتبون في كتبهم عن اليوم الآخر، ولا في خطبهم، وكلماتهم، يقولون: الحياة، ويقولون: تطور وازدهار؛ لكن إذا أعَدْتَهم إلى اليوم الآخر، فلا.
وكذلك لا يذكرون الولاء والبراء؛ ولذلك يقولون: إن من العنصرية أن تقول: أنا مسلم، وهذا نصراني، وتحاربون النصرانية واليهودية.
العالم كله الآن -يقولون عنه-: مدينة واحدة، ولم تعد هناك حروب، وانتهى عصر التخلف، وأصبحنا في عصر ننهي التمييز العنصري حتى في الأديان.
نقول: نحن نحارب التمييز العنصري؛ لكن الدين يبقى ولاء وبراء وحباً وبغضاً، ولذلك يأتون بشعارات الوحدوية بين العالم، وهذه كلمة ماسونية، ويقولون: ما ينبغي أن تدعوا للتفرقة بين البشر: هذا يهودي، وهذا نصراني، لا، لا يصلُح لا دين، ولا لغة، ولا جِنْس؛ إنما إنسانية.
وفي الساحة توجد كتب الوحدة الإنسانية، والوحدة التراثية، ووحدة بني آدم، والفوارق الطبيعية، ويؤسسون اجتماعاتهم على هذا، فيُلْغون قضية الدين، فيقولون: إن قضية الدين قضية فردية؛ حتى يقول أكرم البستاني في مذكراته: "الدين للأفراد فقط، فاللبناني إذا كان مسيحياً يجوز له، واليهودي إذا سكن في اليمن له ذلك، والشيوعي إذا كان في الجزيرة له ذلك، ومن أراد أن يصلي فليصلِّ، وصُمْ رمضانَ لنفسك، أما أن تأتي وتدخل الحياة والدين في شعور الناس ومعتقداتهم وأخلاقهم فهذا خطأ"، وهذا هو الإلحاد بعينه.
لكن تربية الصحوة على اليوم الآخر والإيمان والقيامة هو المطلوب، ولذلك كان لزاماً علينا - وأنا أمامي عشرات الدعاة - أن نعيد الشباب للكتاب والسنة، العلم الصحيح، بلا مذكرات وبلا أطروحات تخالف الكتاب والسنة.
قال عليه الصلاة والسلام: {ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشاً} تصبح المدينة خاوية، وانتهى كل من عليها: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
الأطروحات، الهيئات، الكيانات، الزخارف، القصور، الدنيا، كل ذلك يذهب، ويبقى الواحد الأحد، وهذا الذي تفرد به الله، لا إله إلا الله.
سمعتُ شريطاً قبل أسبوع للشيخ عبد المجيد الزنداني وفيه كلمة جيدة، يقابله شيوعي من شيوعي العرب، فيقول له: يا فلان، نحن إذا متنا حاسبنا الله الذي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] وأنت فإنك تخاف من إلهك، وقد مات إلهك استالين ولينين وماركس، أصبحوا تراباً ورماداً، أما ربنا فهو الله الباقي، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
ثم يقول: {حتى إذا بلغا ثنية الوداع خَرَّا على وجوههما} انظر إلى هذا المشهد، لا إله إلا الله، لا يستطيعون دخول المدينة فتأتي الساعة فجأة، فيجمع الله الأولين والآخرين، ويقوم الفجرة من قبورهم، ويقولون -كما في القرآن الكريم-: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31] يا حسرتنا على الساعات الغالية! يا حسرتنا على الأيام والليالي! يا حسرتنا على الدقائق التي صرفناها! يا حسرتنا على القصور والبساتين والمتاع والمناصب! {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31].
فيقول: {فيجدانها وحوشاً؛ حتى إذا بلغا ثنية الوداع} وثنية الوداع في المدينة، يقولون: يقابل مكة، وقيل: يقابل تبوك.
أشرفَ من ثنية الوداع المصطفى عليه الصلاة والسلام، قيل: يوم الهجرة، وقيل: يوم عاد من تبوك، فخرج له أطفال المدينة فقد كان أباً، وأخاً، وحميماً، وكان قريباً من القلوب، وكان يحبه الناس كل الناس، عطف الله عليه القلوب، ولم يخلق الله أروع ولا أنبل منه، كان يربي ببسمته الأجيال والأطفال.
فلما أقبل عليه الصلاة والسلام خرج أطفال وجواري، وبنات المدينة، في طرف السِّكَّة يستقبلون البدر، ويقولون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداعِ
وجب الشكر علينا ما دعا لله داعِ
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاعِ
جئتَ شرَّفتَ المدينة مرحباً يا خير داعِ
هذه أبيات رائعة، جميلة جداً، يُحَيَّا بها محرر العالم، فقد كانت الأمة عبيداً قبل أن يُبْعَث، وكانت ضائعة ضالة، فلما بُعِث أتى بهذا الوحي فحرر الأمة حتى جعلها أمة إسلامية تملك الدنيا -عليه الصلاة والسلام-.